كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ

كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ
2025/01/09

(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29]

 

يُثْني الله –سبحانَه- على القرآنِ الكريمِ، ويُبيِّنُ حكمةَ إنزالِه، فيقولُ: هذا القُرآنُ أنزَلْناه إليك -يا مُحمَّدُ- مُبارَكٌ، كَثيرُ النَّفعِ في الدُّنيا والآخِرةِ؛ لِيتدَبَّرَ النَّاسُ آياتِه، ولِيَتذَكَّرَ أصحابُ العُقولِ الصَّحيحةِ.

(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ). أي: هذا القُرآنُ أنزَلْناه إليك -يا مُحمَّدُ-، وهو دائِمُ الخَيرِ، غزيرُ العِلمِ، كثيرُ النَّفعِ في الدُّنيا والآخرةِ.

وفيها الحَثُّ على العِنايةِ بهذا الكتابِ والتِزامِه؛ لأنَّه إذا كان مُبارَكًا فإنَّ كُلَّ أحدٍ مِن البَشَرِ يريدُ أنْ يَنالَ بَركةَ هذا الشَّيءِ المُبارَكِ. فكُلُّ آياتِ القُرآنِ إمَّا مُرشِدةٌ إلى خَيرٍ، وإمَّا صارِفةٌ عن شَرٍّ وفَسادٍ، وذلك سَبَبُ الخَيرِ في العاجِلِ والآجِلِ، ولا بَرَكةَ أعظَمُ مِن ذلك.

(لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ). أي: أنزَلْناه؛ لِيَتدَبَّرَ النَّاسُ آياتِه، فيَتفَهَّموا ويَتتَبَّعوا ظواهِرَ ألفاظِه ويتأمَّلوها، ويُكثِروا مِن إمعانِ النَّظَرِ وإعادةِ الفِكرِ فيها؛ لِيَفهَموا ما وراءَها مِن المعاني والحِكَمِ والأسرارِ.

ويدُلُّ على الحَثِّ على تَدبُّرِ القُرآنِ، وأنَّه مِن أفضَلِ الأعمالِ، وأنَّ القِراءةَ المُشتَمِلةَ على التَّدَبُّرِ أفضَلُ مِن سُرعةِ التِّلاوةِ الَّتي لا يَحصُلُ بها هذا المَقصودُ. وأنَّ تحديقَ ناظِرِ القَلبِ إلى معاني القرآنِ، وجَمعَ الفِكرِ على تدَبُّرِه وتعَقُّلِه؛ هو المقصودُ بإنزالِه، لا مجرَّدُ تِلاوتِه بلا فَهمٍ ولا تدَبُّرٍ  ، وقد ذَمَّ الله تعالى الَّذين يَقرؤونه قراءةً لا تَتجاوَزُ ألفاظَه إلى معانيها ومَراميها، فقال تعالى:  وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، أَمَانِيَّ: يعني قراءةً لفظيَّةً فقط، فوصَفَهم اللهُ بأنهم أُمِّيُّونَ؛ لأنَّهم لم يَنتفِعوا بالقرآنِ؛ إذْ لا يُمكِنُ أنْ يُنتفَعَ بالقرآنِ إلَّا بفَهمِ معانيه، فإذا لم تُفهَمْ معانيه صار العربيُّ والعجميُّ على حَدٍّ سواءٍ.  والله تعالى إنَّما أنزَل كتابَه لِيَتأدَّبَ عِبادُه بآدابِه، ويَتخلَّقوا بأخلاقِه، ويَتأمَّلوا ما فيه مِن الثَّناءِ على الله تعالى، وما لم يُتدبَّرْ ذلك حتَّى يُفهَمَ لا يُمكِنُ العملُ به؛ فإنَّه رسائلُ أرسَلَها الله إلى عِبادِه لِيُنفذوها، لا لِتُقرأَ عليهم فلا يَفهموها ولا يُقيموها.

فلا شَيءَ أنفَعُ للقَلبِ مِن قِراءةِ القُرآنِ بالتَّدبُّرِ والتَّفكُّرِ؛ فإنَّه جامِعٌ لجَميعِ منَازِلِ السَّائِرينَ، وأحوالِ العامِلينَ، ومَقاماتِ العارِفينَ، وهو الَّذي يُورِثُ المَحَبَّةَ والشَّوقَ، والخَوفَ والرَّجاءَ، والإنابةَ والتَّوكُّلَ، والرِّضا والتَّفويضَ، والشُّكرَ والصَّبرَ، وسائِرَ الأحوالِ الَّتي بها حياةُ القَلبِ وكَمالُه. فالقُرآنُ نَزَل لِيُؤثِّرَ، ولم يَنزِلْ لِيتبَرَّكَ الإنسانُ بقِراءتِه، أو يَنالَ الأجرَ بقراءتِه فقط، ولكِنْ لا بُدَّ أنْ يُؤَثِّرَ تَذَكُّرًا ومَوعِظةً.

(وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) أي: ولِيَتَذكَّرَ أصحابُ العُقولِ الصَّحيحةِ ما غَفَلوا عنه، فيَرتَدِعوا عن كُلِّ ضَلالةٍ، ويَهتَدوا إلى الرَّشادِ في كُلِّ أمرٍ.

وفيه أنَّ مَن تَذَكَّرَ بالقرآنِ فهو صاحبُ عَقْلٍ، ومَن لم يَتَذَكَّرْ فليس له عَقْلُ رُشدٍ؛ وجْهُ ذلك: أنَّ اللهَ جَعَل التَّذكُّرَ لِمَنِ اتَّصَفوا بالعقولِ. وأنَّه بحَسَبِ لُبِّ الإنسانِ وعَقلِه يَحصُلُ له التَّذكُّرُ والانتِفاعُ بهذا الكِتابِ.

........................

المصادر:

تفسير ابن جرير

تفسير السعدي

تفسير ابن عاشور

مفتاح دار السعادة لابن القيم

مدارج السالكين لابن القيم

شجرة المعارف والأحوال للعز بن عبد السلام

تفسير ابن عثيمين

بحث

الأكثر تداولاً

ellipse

مع تطبيق مصحف المدينة استمتع بتفسير شامل للآيات يساعدك على فهم القرآن الكريم بسهولة

حمل مصحف المدينة الآن

مدار للبرمجة © 2021 جميع الحقوق محفوظة لشركة مدار البرمجة