
في زمنٍ تتزاحم فيه الأصوات وتغيب القدوات، نحتاج إلى التوقف أمام سير رجالٍ عاشوا للقرآن، فحملوه في قلوبهم، ونطقوه بألسنتهم، ونشروه بحالهم قبل مقالهم. ومن بين هؤلاء العظماء، يبرز الإمام حمزة الزيات، الذي يُعلمنا كيف يكون القرآن نورًا للقلوب والحياة.
اسمه ونسبه ونشأته:
هو أبو عمارة حمزة بن حبيب بن عمارة الزيات الكوفي التيمي، وُلد بالكوفة سنة (80 هـ)، وتوفي سنة (156 هـ).
سُمِّي بالزيات لأنه كان يعمل في بيع الزيوت، نشأ في بيئة علمية قوية بالكوفة، مركز العلم والقراءة في عصره، فحفظ القرآن مبكرًا، وازدهرت موهبته في تعلم القراءات على يد كبار القراء.
شيوخه وتلاميذه:
تلقّى الإمام حمزة القراءة على يد عدد من التابعين والعلماء، أبرزهم محمد بن أبي ليلى والأعمش.
وقرأ عليه جمعٌ كبير من التلاميذ، أشهرهم: خلف بن هشام وخَلاد، وكان لتلاميذه دور كبير في نقل قراءته إلى الأجيال اللاحقة.
وقد أثنى عليه كثير من الأئمة، فقال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء:
"كان إمامًا في القراءة، متقنًا، صاحب سنة وزهد، وعبادة".
قراءته ومنهجه:
تميّزت قراءته بالدقة، والإتقان، والإمالة الواضحة، والإدغام الكبير، وهي سمات جعلت طريقته ذات طابع مميز.
فمثلاً، قرأ قوله تعالى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} بالإمالة على طريقته المميزة.
وقد اعتمد ابن مجاهد قراءته ضمن القراءات السبع في كتابه الشهير السبعة في القراءات.
ورغم أن بعض الأئمة مثل مالك بن أنس أنكروا بعض وجوه قراءته، إلا أن ابن الجزري في كتابه النشر في القراءات العشر قال:
"قراءة حمزة متواترة ثابتة، تلقّاها جيل عن جيل، ولا يجوز إنكارها".
زهده وورعه:
كان الإمام حمزة يُعرف بخشوعه ودموعه، وكان يُبكي من حوله عند التلاوة.
وكان يقف عند آيات الوعيد، فيبكي حتى يغشى عليه. وكان يقول:
"ما قرأت آية فيها ذكر الجنة إلا خُيِّل إليّ أنني فيها، ولا آية فيها نار إلا رأيتني بين أطباقها".
ويروى أنه رفض قبول هدايا قد تؤثر على إخلاصه في التعليم، مما يعكس ورعه.
ويوافق حاله هذا قول الشاعر الفرزدق:
"إنّي لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا"
فكثرة الناس لا تُغني عن حضور قلب، وكان حمزة ممن فُتحت عينه على القرآن، فلم يرَ غيره.
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال رسول الله ﷺ:
"خيركم من تعلم القرآن وعلّمه"
رواه البخاري (5027).
وكان حمزة تجسيدًا حيًا لهذا الحديث، حيث لم يكتفِ بالحفظ، بل أفنى حياته في تعليم القرآن ونشره.
📌 رسالة معاصرة:
في وقتٍ كثرت فيه الانشغالات، وتراجع فيه حضور القرآن في حياتنا، نجد في سيرة الإمام حمزة الزيات درسًا عمليًّا للرجوع إلى كتاب الله. لقد جمع بين التجارة والقراءة، وبين العمل والزهد، وكان لسان حاله:
"يا قوم، لا تُضيعوا ما بُني لكم من طريق النور، فإن بين أيديكم كلام الله!"
ابدأ بحلقة أسبوعية لتلاوة القرآن مع أهلك أو أصدقائك، واجعل القرآن جزءًا من يومك، ليكن نورًا يهدي حياتك.
وختاما:
إنّ سيرة الإمام حمزة الزيات لا تُقرأ فحسب، بل تُلهم وتُقتدى.
لم يكن حافظًا للقرآن فحسب، بل كان عبدًا خاشعًا، ومعلّمًا مخلصًا، وناصحًا أمينًا.
فماذا عنّا؟ متى نبدأ نحن رحلتنا مع القرآن؟
هل نكتفي بسماعه فقط؟ أم نطمح أن نكون من أهله وخاصته كما قال رسول الله ﷺ:
"إن للهِ أهلينَ من الناسِ"
قالوا: يا رسولَ اللهِ، مَن هم؟ قالَ: أهلُ القرآنِ، هم أهلُ اللهِ وخاصَّتُهُ**
رواه ابن ماجه (215) وصححه الألباني.
فلنبدأ، ولو بآية... ولنجعل سيرة الإمام حمزة نبراسًا في طريق العودة إلى كتاب الله.