﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ﴾.. قصةُ هلاكِ أمةٍ!

﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ﴾.. قصةُ هلاكِ أمةٍ!
2025/09/03

يقول الله جلَّ ثناؤه:

﴿لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ (15) فَأَعۡرَضُواْ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ سَيۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَٰهُم بِجَنَّتَيۡهِمۡ جَنَّتَيۡنِ ذَوَاتَيۡ أُكُلٍ خَمۡطٖ وَأَثۡلٖ وَشَيۡءٖ مِّن سِدۡرٖ قَلِيلٖ (16) ذَٰلِكَ جَزَيۡنَٰهُم بِمَا كَفَرُواْۖ وَهَلۡ نُجَٰزِيٓ إِلَّا ٱلۡكَفُورَ (17) وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمۡ وَبَيۡنَ ٱلۡقُرَى ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَا قُرٗى ظَٰهِرَةٗ وَقَدَّرۡنَا فِيهَا ٱلسَّيۡرَۖ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ (18) فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ (19)﴾ [سبأ: 15-21]

من نعم اللّه ولطفه بالناس عمومًا، وبالعرب خصوصًا، أنه قص في القرآن أخبار المهلَكين والمعاقَبين، ممن كان يجاور العرب، ويشاهد آثاره، ويتناقل الناس أخباره؛ ليكون ذلك أدعى إلى التصديق، وأقرب للموعظة. [تفسير السعدي]

وقد قصَّ الله علينا خبر "سبأ" وما أنعم الله عليهم من نعم عظيمة وحياة مثالية، إلا أنهم لم يشكروا تلك النعم وأعرضوا؛ فتبدَّل حالهم إلى النقيض، و"هَذا مَثَلٌ لِقُرَيْشٍ بِقَوْمٍ أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ وأرْسَلَ إلَيْهِمُ الرُسُلَ فَكَفَرُوا وأعْرَضُوا فانْتَقَمَ اللهُ مِنهُمْ، أيْ: فَأنْتُمْ أيُّها القَوْمُ مِثْلُهم. [المحرر الوجيز لابن عطية].

﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖجَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖكُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ (سبأ: 15)

افتُتحت القصة بهذه الآية التي تصوِّر الحياة الرغيدة التي عاشتها قبيلة سبأ في بلدتهم "مأرب" باليمن؛ حيث الأرض الخصبة، والأنهار والبساتين، والرزق الوفير، والبلدة المباركة الآمنة.

و"الآية" هنا: ما أدرَّ اللّه عليهم من النعم، وصرف عنهم من النقم، الذي يقتضي ذلك منهم، أن يعبدوا اللّه ويشكروه. 

ثم فسر "الآية" بقوله: ﴿جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾ وكان لهم وادٍ عظيمٌ، تأتيه سيول كثيرة، وكانوا بنَوْا سدًّا محكما، يكون مجمعا للماء، فكانت السيول تأتيه، فيجتمع هناك ماء عظيم، فيفرقونه على بساتينهم، التي عن يمين ذلك الوادي وشماله. وتُغِلُّ لهم تلك الجنتان العظيمتان، من الثمار ما يكفيهم، ويحصل لهم به الغبطة والسرور.

نعم .. لا شاكر لها!

فأمرهم اللّه بشكر نعمه التي أدرَّها عليهم من وجوه كثيرة:

  • منها: هاتان الجنتان اللتان غالبُ أقواتهم منهما.

  • ومنها: أن اللّه جعل بلدهم، بلدةً طيبةً، لحسن هوائها، وقلة وخمها، وحصول الرزق الرغد فيها.

  • ومنها: أن اللّه تعالى وعدهم - إن شكروه - أن يغفر لهم وَيرحمهم، ولهذا قال: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾

  • ومنها: أن اللّه لما علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم إلى الأرض المباركة [قرى الشام]، هيأ لهم من الأسباب ما به يتيسر وصولهم إليها، بغاية السهولة، من الأمن، وعدم الخوف، وتواصل القرى بينهم وبينها، بحيث لا يكون عليهم مشقة، بحمل الزاد والمزاد.

ولهذا قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ﴾ أي: [سيرا] مقدرا يعرفونه، ويحكمون عليه، بحيث لا يتيهون عنه ﴿لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ أي: مطمئنين في السير، في تلك الليالي والأيام، غير خائفين. وهذا من تمام نعمة اللّه عليهم، أن أمنهم من الخوف. [تفسير السعدي بتصرف يسير]

يقول ابنُ كثير -رحمه الله-:

"يذكر تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهني الرغيد، والبلاد الرخية، والأماكن الآمنة، والقرى المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض مع كثرة أشجارها، وزروعها وثمارها بحيث أن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماء وثمرًا، ويقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم".

ورغم كل هذه النعم الوفيرة والعيش الرغيد إلا أنهم كفروا وأعرضوا وبطروا النعمة، كما قال الله تعالى:  ﴿فَأَعۡرَضُوا۟ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ سَیۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَـٰهُم بِجَنَّتَیۡهِمۡ جَنَّتَیۡنِ ذَوَاتَیۡ أُكُلٍ خَمۡطࣲ وَأَثۡلࣲ وَشَیۡءࣲ مِّن سِدۡرࣲ قَلِیلࣲ﴾ [سبأ ١٦]

أي: فأعرضوا عن شكر الله والإيمان برسله، فعاقبناهم بتبديل نعمهم نقمًا، فأرسلنا عليهم سيلًا جارفًا خرَّب سدهم وأغرق مزارعهم، وبدَّلناهم ببُسْتانَيْهم بُسْتانَين مُثْمرين بالثمر المر، وفيهما شجر الأثل غير المثمر، وشيء قليل من السِّدْر.

﴿ذَ ٰ⁠لِكَ جَزَیۡنَـٰهُم بِمَا كَفَرُوا۟ۖ وَهَلۡ نُجَـٰزِیۤ إِلَّا ٱلۡكَفُورَ﴾ [سبأ ١٧]

ذلك التبديل - الحاصل لما كانوا عليه من النعم - بسبب كفرهم وإعراضهم عن شكر النعم، ولا نعاقب هذا العقاب الشديد إلا الجَحودَ لنعم الله الكفور به سبحانه. [المختصر في التفسير]

وكذلك بطروا نعمة الله عليهم بتقريب المسافات ﴿فَقَالُوا۟ رَبَّنَا بَـٰعِدۡ بَیۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَـٰهُمۡ أَحَادِیثَ وَمَزَّقۡنَـٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُورࣲ﴾ [سبأ ١٩]

أي: فقالوا: ربنا باعد بين أسفارنا بإزالة تلك القرى حتى نذوق تعب الأسفار، وتظهر مزية ركائبنا، وظلموا أنفسهم ببطرهم نعمة الله وإعراضهم عن شكره وحسدهم للفقراء منهم، فصيّرناهم أحاديث يتحدث بها مَن بَعدَهم، وفرقناهم في البلاد كل تفريق، بحيث لا يتواصلون فيما بينهم.

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ (صبَّار) على المكاره والشدائد، يتحملها لوجه اللّه، ولا يتسخطها بل يصبر عليها. (شكور) لنعمة اللّه تعالى يُقِرُّ بها، ويعترف، ويثني على من أولاها، ويصرّفها في طاعته. 

فهذا إذا سمع بقصتهم، وما جرى منهم وعليهم، عرف بذلك أن تلك العقوبة، جزاء لكفرهم نعمةَ اللّه، وأن من فعل مثلهم، فُعِلَ به كما فعل بهم، وأن شكر اللّه تعالى، حافظ للنعمة، دافع للنقمة، وأن رسل اللّه، صادقون فيما أخبروا به، وأن الجزاء حق، كما رأى أنموذجه في دار الدنيا. [تفسير السعدي]

دروس وعبر:

وجُمع ﴿ الآيات ﴾ لأن في تلك القصة عدة آيات وعِبَر:

  • فحالةُ مساكنهم آية على قدرة الله ورحمته وإنعامه ... 

  • وفي إرسال سيل العرم عَليهم آية على انفراده تعالى بالتصرف، وعلى أنه المنتقم ... 

  • وفي انعكاس حالهم من الرفاهة إلى الشظف آية على تقلب الأحوال وتغير العالم ... وفي ذلك آية مِن عدم الاطمئنان لدوام حال في الخير والشر. 

  • وفيما كان من عمران إقليمهم واتساع قراهم إلى بلاد الشام آية على مبلغ العمران وعظم السلطان من آيات التصرفات، وآية على أن الأمن أساس العمران. 

  • وفي تمنيهم زوال ذلك آية على ما قد تبلغه العقول من الانحطاط المُفضِي إلى اختلال أمور الأمة وذهاب عظمتها.

  • وفيما صاروا إليه من النزوحِ عن الأوطان والتشتت في الأرض آية على ما يُلجىء الاضطرارُ إليه الناس من ارتكاب الأخطار والمكاره... [تفسير ابن عاشور]

إن قصة سبأ هي أنموذج حي من التاريخ لهلاك أمة وسقوط حضارة كانت ملء السمع والبصر ومضرب العيش الرغيد والحياة الهنية، وفيهم يصدق قولُ أبي الدرداء رضي الله عنه، حين فُتحت قبرص سنة (٢٨هـ) فجلس وحدَه يبكي، فقيل له: يا أبا الدرداء، ما يُبكيك في يومٍ أعزَّ اللهُ فيه الإسلامَ وأهله؟!، فقال رضي الله عنه:

"ما أهونَ الخلقَ على الله إذا هم تركوا أمره، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة، لهم الملك، تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترى". [حلية الأولياء (1/ 217)]

🌍 هكذا تسقط الأمم حين تكفر بالنعمة.. عبرة باقية في كتاب الله .. شاركها مع من تحب الآن🌿

مع تطبيق مصحف المدينة استمتع بتفسير شامل للآيات يساعدك على فهم القرآن الكريم بسهولة

حمل مصحف المدينة الآن

مدار للبرمجة © 2021 جميع الحقوق محفوظة لشركة مدار البرمجة