شهادةٌ من وراء القضبان..كيف تصل إلى مقام الإحسان؟

شهادةٌ من وراء القضبان..كيف تصل إلى مقام الإحسان؟
2025/10/26

يتكرر وصف يوسف عليه السلام بـ«المحسنين» في أربع مواضع في سورة يوسف، ليجسد هذا الوصف سموّ خلقه وثبات معدنه في مختلف أطوار حياته؛ فكان إحسانه دليلاً على صفاء قلبه ودوام مراقبته لربه في السرّ والعلن. ومن الطفولة إلى التمكين، ظلّ يوسف عنوانًا للإحسان الذي لا يتغير بتقلب الأحوال.

 

الإحسان طريق النبوة والعلم:

قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ حُكۡمࣰا وَعِلۡمࣰاۚ وَكَذَ ٰ⁠لِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ [يوسف: 22]. ودل هذا، على أن يوسف وفَّى مقام الإحسان، فأعطاه الله الحكم بين الناس والعلم الكثير والنبوة.

قال ابن كثير في تفسيره:

وقوله: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ﴾ أي: يوسف عليه السلام ﴿أَشُدَّهُۥ﴾ أي: استكمل عقله وتم خلقه. ﴿ءَاتَیۡنَـٰهُ حُكۡمࣰا وَعِلۡمࣰاۚ﴾ يعني: النبوة، إنه حباه بها بين أولئك الأقوام، ﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ أي: إنه كان محسنًا في عمله، عاملاً بطاعة ربه تعالى.

وفي تعليق الجزاء المذكور بالمحسنين إشعارٌ بكون الإحسان سببًا له، وتنبيه على أنه سبحانه إنما آتاه ما آتاه لكونه محسنًا في أعماله متقيًا في عنفوان أمره. قال تعالى: ﴿هَلْ جَزاءُ الإحْسانِ إلا الإحْسانِ﴾ [الرحمن:60]

فكل من أحسن في عمله أحسن الله جزاءه وجعل عاقبته الخير من جملة ما يجزيه به، وهذا عام يدخل تحته جزاء يوسف على صبره الحسن دخولاً أولياً.

 

شهادةٌ من وراء القضبان:

قال تبارك وتعالى: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَیَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَاۤ إِنِّیۤ أَرَىٰنِیۤ أَعۡصِرُ خَمۡرࣰاۖ وَقَالَ ٱلۡـَٔاخَرُ إِنِّیۤ أَرَىٰنِیۤ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِی خُبۡزࣰا تَأۡكُلُ ٱلطَّیۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِیلِهِۦۤۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ [يوسف: 36].

اختلف أهل التأويل في معنى "الإحسان" الذي وصف به الفتيان يوسف، فقال بعضهم: هو أنه كان يعود مريضهم، ويعزي حزينهم، وإذا احتاج منهم إنسان جَمَع له.

وقيل: إن وجه ذلك أنهما قالا له: نبئنا بتأويل رؤيانا محسنًا إلينا في إخبارك إيانا بذلك، كما نراك تحسن في سائر أفعالك.

قال السعدي:

﴿إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ أي: من أهل الإحسان إلى الخلق، فأحسن إلينا في تعبيرك لرؤيانا، كما أحسنت إلى غيرنا، فتوسلا ليوسف بإحسانه.

وجاء في نظم الدرر:

أنَّكَ ﴿مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ أي العريقين في وصف الإحسان لكل أمر تعانيه، فلذلك لاح لنا أنك تحسن التأويل قياسًا.

قال الشاعر:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإحسانَ إنسانُ

 

لن يضيع الله إحسانك أبدًا:

قال الله عز وجل: ﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ مَكَّنَّا لِیُوسُفَ فِی ٱلۡأَرۡضِ یَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَیۡثُ یَشَاۤءُۚ نُصِیبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَاۤءُۖ وَلَا نُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ [يوسف:56]

أي: وما أضعنا صبر يوسف على أذى إخوته، وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز.

قال الطبري:

ولا نبطل جزاء عمل من أحسن فأطاع ربه، وعمل بما أمره، وانتهى عما نهاه عنه، كما لم نبطل جزاء عمل يوسف إذ أحسن فأطاع الله.

والمعنى أن الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين في أعمالهم الحسنة التي هي مطلوبه منهم سبحانه وتعالى، أي لا نضيع ثوابهم فيها ومجازاتهم عليها.

قال الفضيل بن عياض:

وقفت امرأة العزيز على ظهر الطريق، حتى مر يوسف، فقالت: الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكًا بطاعته، والملوك عبيدًا بمعصيته.

 

أتمّ إحسانك.. فالمواقف العظيمة تُخلّد أهلها:

قال الله عز وجل: ﴿قَالُوا۟ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡعَزِیزُ إِنَّ لَهُۥۤ أَبࣰا شَیۡخࣰا كَبِیرࣰا فَخُذۡ أَحَدَنَا مَكَانَهُۥۤۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ [يوسف:78].

وقد عللوا طلبهم بقولهم (إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ) إلى الناس كافة، وإلينا خاصة فأتم إحسانك إلينا بإجابتنا إلى هذا المطلب.

قال القرطبي:

يحتمل أن يريدوا وصفه بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم، ويحتمل أن يريدوا: إنا نرى لك إحسانًا علينا في هذه اليد إن أسديتها إلينا.

وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: فلا ترد سؤالنا؛ إنا نراك من المحسنين فمثلك لا يصدر منه ما يسوء أبًا شيخًا كبيرًا.

وفي تفسير أبي السعود:

فأتمم إحسانك بهذه التتمة، أو إنك من المتعودين بالإحسان فلا تغير عادتك.

 

كيف تصل لمقام الإحسان؟

عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث جبريل عليه السلام، قال: (كانَ النبيُّ ﷺ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فأتَاهُ جِبْرِيلُ فَقالَ: ما الإحْسَانُ؟ قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ) [أخرجه البخاري (50) واللفظ له، ومسلم (9)].

أي تعبد الله عبادة من يرى الله تعالى، ويراه الله تعالى؛ فإنك لا تستبقي شيئًا من الخضوع والخشوع والإخلاص، وحفظ القلب والجوارح، ومراعاة الآداب الظاهرة والباطنة ما دمت في عبادته.

ونهاية مقام الإحسان: أن يعبد المؤمن ربه كأنه يراه بقلبه، فيكون مستحضرًا ببصيرته وفكرته لهذا المقام، فإن عجز عنه وشق عليه انتقل إلى مقام آخر؛ وهو أن يعبد الله على أن الله يراه ويطلع على سره وعلانيته، ولا يخفى عليه شيء من أمره.

 

وختامًا لقد أثبتت قصة يوسف عليه السلام أن معدن الرجال لا تصقله إلا الشدائد، ولا تغيّره الفتن، فالمحسن يبقى محسناً أينما كان، لأن الإحسان نابع من الإيمان قبل أن يكون سلوكًا. وهكذا خلد الله ذكر يوسف ليكون قدوةً لكل من يسعى لبلوغ مقام الإحسان في عبوديته وسلوكه ومعاملاته.

 

شاركنا رأيك:

قال الفتيان في السجن: ﴿إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ — ما الصفات التي تجعل الناس يرونك من «المحسنين» حتى في أحلك الظروف؟

.................

المصادر: تفسير القرطبي- تفسير الطبري- فتح البيان للقنوجي-تفسير ابن كثير- تفسير السعدي- التحرير والتنوير لابن عاشور- تفسير أبي السعود.


 

بحث

الأكثر تداولاً

مع تطبيق مصحف المدينة استمتع بتفسير شامل للآيات يساعدك على فهم القرآن الكريم بسهولة

حمل مصحف المدينة الآن

مدار للبرمجة © 2021 جميع الحقوق محفوظة لشركة مدار البرمجة