
في سجل علماء الأمة الراسخين، تبرز أسماء حفِظ اللهُ بها كتابه، وكان لها أثرٌ كبير في تعليمه وإقرائه، ومن بين أولئك الإمامُ أبو بكر شُعبة بن عيّاش، أحدُ رواة القرّاء السبعة، وصاحبُ الرواية الشهيرة عن الإمام عاصم الكوفي.
سيرته ومناقبه:
هو: شُعبة بن عيّاش بن سالم الأسديِّ الكوفيِّ الحَنَّاط، اختُلِف في اسمه على ثلاثة عشر قولًا، أصحها شعبة، وُلد سنة 95 هـ (714 م)، وقد عُمِّرَ نحو تسع وتسعين سنة؛ حيث تُوفِّيَ بالكوفة في جمادى الأولى سنة 193هـ (809 م).
وصف الذهبيُّ الإمامَ شعبة بـأنه «المُقْرِئُ، الفَقِيْهُ، المُحَدِّثُ، شَيْخُ الإِسْلَامِ، وَبَقِيَّةُ الأَعْلَامِ» [سير أعلام النبلاء (8/ 495)].
وقال عنه ابنُ الجزري: «كان إمامًا كبيرًا عالمًا عاملًا [حجة]، وكان يقول: أنا نصف الإسلام، وكان من أئمة السنة» [غاية النهاية في طبقات القراء(1/ 326)]
وقال عنه الإمامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: "صَاحِبُ قُرْآنٍ وَخَيْرٍ" [السير(8/ 496)].
وَقَالَ ابْنُ المُبَارَكِ: "مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَسرَعَ إِلَى السُّنَّةِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَيَّاشٍ" [السير(8/ 496)].
وقال الحافظ يعقوب بن شيبة: "كان أبو بكر معروفا بالصلاح البارع؛ وكان له فقه وعلم بالأخبار" [معرفة القراء الكبار (ص81)].
وشُعبة هو أحد الرواة المبرَّزين عن الإمام عاصم بن أبي النجود الكوفي، وكان يُلازم شيخه ملازمة تامة، وعرض القرآن عليه ثلاث مرات، وما تعلم غير قراءته.
قال يحيى بن آدم (من تلامذته): قال لي أبو بكر:
«تعَلَّمْتُ مِنْ عَاصِمٍ القُرْآنَ، كَمَا يَتَعَلَّمُ الصَّبِيُّ مِنَ المُعَلِّمِ، فَلَقِيَ مِنِّي شِدَّةً، فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَ قِرَاءتِهِ، وَهَذَا الَّذِي أُحَدِّثُكَ بِهِ مِنَ القِرَاءاتِ إِنَّمَا تَعَلَّمْتُهُ مِنْ عَاصِمٍ تَعَلُّماً» [معرفة القراء الكبار (ص82)].
وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر، قال: تَعَلَّمْتُ القُرْآنَ مِنْ عَاصِمٍ خَمْساً خَمْساً، وَلَمْ أَتَعَلَّمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا قَرَأْتُ عَلَى غَيْرِهِ، واختلفتُ إليه نَحْواً مِنْ ثَلَاثِ سِنِيْنَ، فِي الحَرِّ وَالشِّتَاءِ وَالمَطَرِ» [معرفة القراء الكبار (ص82 -83)].
وقَالَ أبو بكر: «فَلَقَدْ فَارَقتُ عَاصِماً وَمَا أُسقِطَ مِنَ القُرْآنِ حَرفاً» [سير أعلام النبلاء(8/ 503)].
وأبرزُ الرواة عن شعبة في القرآن: أَبُو يُوْسُفَ الأَعْشَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي حَمَّادٍ، وَعُرْوَةُ بنُ مُحَمَّدٍ الأَسَدِيُّ، وَيَحْيَى بن محمد العُلَيْمِيُّ، وسهل بن شعيب الكوفي.
قال أبو عمرو الداني: «ولا يُعلم أحدٌ عرَضَ عليه القرآنَ غير هؤلاء الخمسة» [«غاية النهاية (1/ 326)].
لكنَّ الذهبيَّ ذكر من تلامذته أيضًا: أَبا الحَسَنِ الكَسَائِيَّ - وَمَاتَ قَبْلَه -، وَعَبْدَ الحَمِيْدِ بنَ صَالِحٍ البُرْجُمِيَّ، ويَحْيَى بنَ آدَمَ.
منزلته في الحديث:
وصفه الذهبيُّ في مفتتح ترجمته في السير بـ"المُحَدِّث"، وقد أخرج له البخاري وأصحابُ السُّنن. لكنَّ أكثر علماء الجرح والتعديل يذهبون إلى "توهينه"، وبعضُهم "يوثقه"!
ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، فَقَالَ: "ثِقَةٌ، رُبَّمَا غَلِطَ".
وَرَوَى مُهَنَّا بنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: "أَبُو بَكْرٍ كَثِيْرُ الغَلَطِ جِدّاً، وَكُتُبُهُ لَيْسَ فِيْهَا خَطَأٌ".
وَقَالَ يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ فيه: "ثِقَةٌ".
قال الذهبيُّ رحمة الله عليه بعد أن ساق كلام علماء أهل الحديث في أبي بكر بن عيَّاش:
"فَأَمَّا حَالُهُ فِي القِرَاءةِ، فَقَيِّمٌ بِحَرفِ عَاصِمٍ، وَقَدْ خَالَفَه حَفْصٌ فِي أَزْيَدَ مِنْ خَمْسِ مائَةِ حَرْفٍ، وَحَفْصٌ أَيْضاً حُجَّةٌ فِي القِرَاءةً، لَيِّنٌ فِي الحَدِيْثِ".
وقد تُوفِّيَ الإمامُ أبو بكر بن عيَّاش في الكوفة سنة 193 هـ، وقضى غالب عمره في تعلُّم القرآن وتعليمه. وكان قد قطع الإقراء قبل موته بسبع سنين، وقيل أكثر من ذلك، لكنَّه كان خلال هذه السنوات "يَرْوِي الحُرُوْفَ، فَقَيَّدَهَا عَنْهُ يَحْيَى بنُ آدَمَ عَالِمُ الكُوْفَةِ، وَاشْتُهِرَتْ قِرَاءةُ عَاصِمٍ مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وَتَلَقَّتْهَا الأُمَّةُ بِالقَبُولِ، وَتَلَقَّاهَا أَهْلُ العِرَاقِ" [السير (8/ 505)].
ولَمَّا حَضَرَتْ أَبَا بَكْرٍ الوَفَاةُ، بَكَتْ أُخْتُهُ، فَقَالَ لَهَا: مَا يُبْكِيْكِ؟ انْظُرِي إِلَى تِلكَ الزَّاوِيَةِ، فَقَدْ خَتَمَ أَخُوْكِ فِيْهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ خَتْمَةٍ. [معرفة القراء الكبار (1/ 138)].
هذا، وقد أجمعتِ الأمَّةُ على اعتماد روايته، وأخَذَ بها الأئمةُ في مشارق الأرض ومغاربها، وإن كانت روايةُ حفص عن عاصم هي الأكثرَ شيوعًا، إلا أن رواية شُعبة محفوظةٌ ومتواترةٌ، ويدرسها ويعتني بها أهلُ الإقراء إلى يومنا هذا.
💬 ما أكثر ما أثار إعجابك في سيرة الإمام شُعبة؟ شاركنا رأيك في التعليقات👇
🌟 شارك المقال مع أصدقائك.. ولتكن هذه السيرة العطرة صدقة جارية بعلم يُنتفع به!