قال الله –تعالى-(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة:2]
أشار إليه بأداة البُعد في قوله (ذَلِكَ الْكِتَابُ)؛ لعلوِّ مقدارِه، وجلالة آثارِه، وبُعد رتبته عن المحرومين. والْكِتَابُ جاء معرَّفًا بالألف واللام؛ للتَّفخيم لأمْره، ولبيان علوِّ شأنه.
وإذا كان القرآن عاليَ المكانة والمنزلة، فلا بدَّ أن يعود ذلك على المتمسِّك به بالعلوِّ والرِّفعة؛ لأنَّ الله -سبحانه وتعالى- قال: ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة:33] ؛ وكذلك ما وُصِف به القُرآنُ كالكرَم، والعظَمة، فإن للمشتغل به نصيبًا من ذلك.
وهو إشارةٌ كذلك إلى ما سيؤول إليه أمر القرآن من كونه مكتوبًا ومجموعًا في كتابٍ واحد. قال ابن عاشور: (وفي هذه التسمية معجزة للرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن ما أوحي إليه سيكتب في المصاحف، ولذلك اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من أصحابه كتابًا يكتبون ما أنزل إليه ومن أول ما ابتدئ نزوله... وقد وجد جميع ما حفظه المسلمون في قلوبهم على قدر ما وجدوه مكتوبًا يوم أمر أبو بكر بكتابة المصحف.
ولما عُلم كمالُه، أشار إلى تعظيمه بالتصريحِ بما يستلزمه ذلك التعظيمُ، فقال: (لاَّ رَيْبَ فِيهِ). أي: إنَّ هذا القرآن، لا شكَّ في أنَّه حقٌّ في ذاته، وأنَّه نزَل من عند الله –تعالى-، كما أنَّه لا يتضمَّن ما يوجب الرَّيْب.
ونفي الرَّيْب عن القرآن، يدلُّ على ثبوت كمال ضدِّه، فهو يُورث كمال اليقين؛ لما يتضمَّنه من الحجج والبراهين والدَّلائل التي لا تترك في الحقَّ لبسًا. والنفي الوارد في باب صفات الله تعالى، أو الملائكة، أو النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّمَ-، أو القرآن، يدل على ثبوت كمال ضدِّه.
والمعنى أنه لا يعتريه الريب لكمال حقائقه ووضوح مقاصده، والبراهين القاطعة المثبتة أنه من عند الله –تعالى-، فلا مساغ لمرتاب أن يرتاب. وإذا كان قد وقع فيه إنكار، فلأنهم جحدوا آيات الله تعالى، واستيقنتها أنفسهم، والنفي لوقوع الريب منه في ذاته، ويضل ناس فيجحدون ولا يؤمنون، ولا ينفي ذلك أنه لا مكان للريب، ولا موضع له، إذ هو ارتياب حيث اليقين، وإنكار حيث يجب الإيمان، وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من أي ناحية من نواحيه .
(هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) أي: إنَّ القرآن هدًى من الضلالة، ونورٌ وتبيان للذين يتَّقون غضبَ الله تعالى وعقابَه، بامتثال ما أَمَر الله –تعالى- به، واجتنابِ ما نَهَى عنه. ووُضِع المصدر هُدًى موضِعَ اسم الفاعِل (هادٍ)؛ للتأكيد على دَيمومة هِدايتِه واستمرارِها، وجاء منكَّرًا للتعظيم، وللدَّلالة على أنها هداية مُطلَقة لكل متَّقٍ في كلِّ ما يَحتاج إليه الخَلقُ للوصول إلى السعادة في الدَّارين.
وبهذا القيد الذي ذكره الله –تعالى- هنا(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) يظهر لنا السر والجواب في كون الكثيرين لا ينتفعون به، ثم إن هذا الحكم بأنه هدى للمتقين حكم بأنه هدى وعلق ذلك بوصف وهو التقوى، والقاعدة أن "الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه"، فهو هدى للمتقين، وعليه فبقدر التقوى التي تعمر القلب بقدر ما يوجد منها في القلب يكون الاهتداء بالقرآن، والانتفاع بالقرآن، ننتفع بالقرآن بقدر ما في قلوبنا من التقوى، فإذا ضعُفت التقوى ضعف الانتفاع بالقرآن.
وإذا عظُمت التقوى في القلب وعمُر بها عظُم الانتفاع بالقرآن، فالناس يتفاوتون، فمن أراد الانتفاع بالقرآن فعليه أولاً أن يجعل المحل قابلاً، يُصلح هذا القلب فيكون أرضًا طيبة للإنبات والزرع، يكون قلبه زكيًا طاهرًا لا يتعلق بغير الله، ولا يشتغل بمساخطه، هذا بالإضافة إلى أمور أخرى تُطلب في ذلك من الإقبال على القرآن، والإنصات له عند القراءة والاستماع، وكذلك التدبر له، وكذلك أيضًا إحضار القلب عند سماعه، أو قراءته.
....................
المصادر:
نظم الدرر للبقاعي
تفسير ابن أبي حاتم
تفسير ابن عاشور
تفسير ابن كثير
تفسير ابن عُثيمين
تفسير السعدي
تفسير أبي حيان
تفسير خالد السبت