
في مشهد بليغ من مشاهد الوحي، يضرب القرآن مثلًا مائيًّا وآخر ناريًّا للحق والباطل، يصوّر بهما صراع النقاء والخبث، والنفع والزبد. إنها رحلة تطهير تُبيّن أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، أما الزبد فيذهب جُفاءً.
قال الله تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾ [الرعد: 17].
سُيولٌ بأقدارها... والزبدُ لا يعلو إلا ظاهرًا:
هذا هو المثل الأول، حيث يقول الله عز وجل: ﴿أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها﴾:
و(أوْدِيَةٌ﴾ جمع واد، وهو كل منفرج بين جبلين أو نحوهما يجتمع إليه ماء المطر فيسيل.
﴿بِقَدَرِها﴾ فيه وجْهان:
أحدهما: يعني بما قدر لها من قليل أو كثير.
الثاني: يعني: الصغير من الأودية سال بقدر صغره، والكبير منها سال بقدر كبره.
وقوله ﴿فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا﴾ والاحتمال: رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل له. أي: فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زبد عال عليه. والزبد هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل، ويقال له الغثاء والرغوة، وكذلك ما يعلو عن القدر عند غليانها. والرابي: العالي المرتفع فوق الماء.
نار الإذابة تكشف صفاء الجوهر:
وقوله: ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ﴾ هذا هو المثل الثاني، وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة ﴿ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ﴾ أي: ليجعل حليةً، فيجعل متاعًا.
وقوله تعالى ﴿زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾ المراد بالزبد هنا الخبث، فإنه يعلو فوق ما أذيب من تلك الأجسام كما يعلو الزبد على الماء.
ووجه المماثلة في قوله تعالى ﴿زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾ أن كلا منهما ناشئ من الاكدار؛ لأن الماء خالطه تراب الأرض فصار ذلك زبدًا، كذلك ما يوقد عليه في النار من الذهب والفضة وبقية المعادن فقد خالطه التراب، فإنما يوقد عليه ليذوب فيزايله تراب الأرض.
وقيل لما كان الزبد أحسن مثل لمعبوداتهم، وكان لا يختص بالماء الذي هو مائع بطبعه بجمع الأوضار والأقذار بجريه، ذكر معه ما يشبهه في النفع من الجوامد الصلبة التي تزبد عند الإذابة مع كونها في حال الجمود في غاية الصفاء والخلوص عن الشوائب على ما يظهر.
فالحاصل: أن الوادي إذا جرى طفا عليه زبد، وذلك الزبد يذهب ويبقى الماء، والمعادن إذا أذيبت لأجل اتخاذ الحلي أو لأجل اتخاذ سائر الأمتعة انفصل عنها خبث وزبد، فيذهب ويبقى ذلك الجوهر المنتفع به.
الحق يبقى والباطل زبد زائل:
يقول تعالى ذكره: مثل الحق في ثباته والباطل في اضمحلاله، مثل ماء أنزله الله من السماء إلى الأرض فاحتملته الأودية بملئها، الكبير بكبره، والصغير بصغره، فاحتمل السيل الذي حدث عن ذلك الماء الذي أنزله الله من السماء، زبدًا عاليًا فوق السيل.
فهذا أحدُ مثلي الحقّ والباطل، فالحق هو الماءُ الباقي الذي أنزله الله من السماء، والزبد الذي لا ينتفع به هو الباطل.
والمثل الآخر مثل فضة أو ذهب يوقد عليها الناس في النار طلب حلية يتخذونها أو متاع، وذلك من النحاس والرصاص والحديد، يوقد عليه ليتخذ منه متاع ينتفع به، ومما يوقدون عليه من هذه الأشياء زبد مثله، يعني: مثل زبد السَّيل لا ينتفع به ويذهب باطلاً كما لا ينتفع بزبد السَّيل ويذهب باطلاً.
الوحي حياة القلوب والأسماع والأبصار:
قال ابن القيم في تفسيره:
وقد ذكر الله المثلين المائي والناري في سورة الرعد. ذكر المثل المائي فقال تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا) وهنا شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات، وشبه القلوب بالأودية، فقلب كبير يسع علمًا عظيمًا كواد كبير يسع ماء كثيرًا وقلب صغير إنما يسع يحسبه كالوادي الصغير، فسالت أودية بقدرها، واحتملت قلوب من الهدى والعمل بقدرها؛ وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومر عليها احتمل غثاءً وزبدًا فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ليقلعها ويذهبها كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه فيتكدر بها شاربه، وهي من تمام نفع الدواء، فإنه أثارها ليذهب بها، فإنه لا يجامعها ولا يشاركها؛ وهكذا يضرب الله الحق والباطل.
ثم ذكر المثل الناري فقال: ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾ وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد فتخرجه النار وتميزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيرمى ويطرح ويذهب جفاءً؛ فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث، ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي يستقي منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم، كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره؛ ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما.
الإعجاز العلمي:
في المقطع الأول تحدثت الآية الكريمة عن عملية سيلان الأودية إثر نزول المطر. وفي هذا إشارة إلى ظاهرة بيئية اكتشفها العلماء حديثًا، وهي ظاهرة التطهير الذاتي للمسطحات المائية، وهي عبارة عن مجموعة من الأساليب العلمية تتفاعل مع بعضها البعض لتقوم بتصفية المياه من ملوثاتها العضوية؛ فينتج عن هذه العملية ماءً صافيًا صالحًا للشراب ينفع الناس. وزبد يعلوه يطرح ويلقى؛ لأنه لا فائدة فيه. وقد اقتبس العلماء هذه الظاهرة الطبيعية وطوروا أساليبها تكنولوجيًا وطبقوها ميدانيًا في شكل محطات لتطهير المياه المستعملة.
وفي المقطع الثاني من الآية الكريمة، وفي نفس السياق، تحدث القرآن عن عملية التعدين التي تبدو في ظاهرها عملية فيزيائية بحتة وهي المعاملة الحرارية لاستخراج المعادن. وينتج أيضًا عن هذه العملية معادن صافية يستفاد بها للحلية والمتاع من ناحية وزبد يطرح ويلقى من ناحية أخرى.
ورغم اختلاف الأساليب بين العمليتين — المياه بالنزول والسريان، والمعادن بالنار والسبك — إلا أن القرآن أشار إلى مماثلة الزبد في الحالتين بدقة بليغة، وبالتالي لا يمكن مماثلة الزبد إلا من حيث أنه خبث يطرح ويلقى. إلا أن سياق الحديث في الآية ودقة القرآن في لفظ "مثله" يأبى هذه المماثلة الضعيفة. فجاءت الاكتشافات العلمية الحديثة في مجال هندسة الأساليب والتعدين لتؤكد إمكانية استخراج المعادن بأساليب علمية ينتج عنها زبد يشبه تمامًا الزبد الذي ينتج عن عملية التطهير الذاتي التي تحدثت عنها الآية في المقطع الأول.
وهذا يمثل قمة في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، فمن أعلم الرسول الكريم ﷺ بهذه الأساليب في مجالي التطهير والتعدين التي لم يكتشفها العلم الحديث إلا في السنوات الأخيرة؟
وهكذا يُميّز الله الخبيث من الطيب، ويكشف ما في القلوب من شوائب، كما تُنقّى المعادن وتُصَفّى المياه.
فالحقّ خالدٌ في نفعه، والباطل مهما علا فهو زبدٌ زائل، لا يلبث أن يُطرَح.
فلتكن قلوبنا كالأودية، لا تحتفظ إلا بما ينفع، ولتطرح خبث الزبد مهما علا... فالحقّ دائم، والباطل زائل.
...........................
المصادر
- تفسير الطبري
- تفسير القرطبي
- تفسير ابن القيم
- تفسير الرازي
- تفسير الماوردي
- تفسير ابن كثير
- تفسير ابن الجوزي
- فتح القدير للشوكاني
- فتح البيان للقنوجي
- نظم الدرر للبقاعي
- جوانب من الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في مجالي التطهير والتعدين -محمد بن الهادي الشيخ