من المجالس إلى الجنّة: كيف يكافئك الله على لطفك وتواضعك؟

من المجالس إلى الجنّة: كيف يكافئك الله على لطفك وتواضعك؟
2025/09/01

آية كريمة جامعة لأدب المجالس، تكشف لنا أن التوسعة والإيثار والامتثال لأوامر الله ليست مجرد سلوك اجتماعي، بل هي طريق للرفعة والبركة. إنها دعوة ربانية لبناء مجتمع متآلف، يعلو فيه الإيمان والعلم درجاتقال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا یَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَـٰتࣲۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣱ) [المجادلة:11].

 

مجالس المؤمنين فسحة ورحمة:

يقول تعالى مؤدبًا عباده المؤمنين، وآمرًا لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمْ﴾، أي من أي قائل كان فإن الخير يرغب فيه لذاته، يعني بقوله: (تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ): توسعوا، من قولهم مكان فسيح إذا كان واسعًا.

واختلف أهل التأويل في المجلس الذي أمر الله المؤمنين بالتفسح فيه، فقال بعضهم: ذلك كان مجلس النبيّ ﷺ خاصة، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلاً ضنُّوا بمجلسهم عند رسول الله ﷺ، فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض.

وقال آخرون: بل عُنِيَ بذلك في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، إذ كانوا يتشاحنون على الصف الأول، ولا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال، لتحصيل الشهادة.

والصحيح أنها عامة في كل مجلس، اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو يوم جمعة وأن كل واحد أحق بمكانه الذي يسبق إليه، ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق عن موضعه.

ويؤيد هذا قول النبي ﷺ، (لا يُقيمُ الرجلُ الرجلَ من مجلِسِهِ ثمَّ يَجلِسُ فيه، و لكنْ تفَسَّحُوا أوْ تَوسَّعُوا) [أخرجه البخاري (6270)، ومسلم (2177)]

 

الجزاء من جنس العمل:

يقول تبارك وتعالى: ﴿فَافْسَحُوا﴾ أي: فوسعوا، ﴿يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أي: يوسع الله منازلكم في الجنة، أو في كل ما تريدون التفسيح فيه من المكان والرزق والقبر؛ وذلك أن الجزاء من جنس العمل، كما جاء في الأحاديث الصحيحة، ومنها: قال رسول الله ﷺ: (مَن بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ، بَنَى اللَّهُ له في الجَنَّةِ مِثْلَهُ)[رواه مسلم (533)].  وقال ﷺ: (مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ) [رواه مسلم (2699)].

 

درس رباني في سرعة الاستجابة:

ومن الأداب أيضًا في هذه الآية قول الله عز وجل :﴿وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا﴾ أي: وإذا قيل لكم قوموا إلى قتال عدوّ، أو صلاة، أو عمل خير، أو تفرّقوا عن رسول الله ﷺ، فقوموا.

وقيل هذا في بيت النبي ﷺ، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي ﷺ، فأمر الله تعالى أنه إذا قيل: انشزوا عن النبي فانشزوا، فإن له حوائج فلا تمكثوا.

قال الطبري:

أمر الله عز وجل المؤمنين إذا قيل لهم انشزوا، أن ينشزوا، فعم بذلك الأمر جميع معاني النشوز من الخيرات.

 

الامتثال طريق العلو:

وذكر الله عز وجل ما يترتب على الامتثال لتلك الآداب فقال: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ والمعنى: يرفع الله المؤمنين منكم بطاعتهم ربهم، فيما أمرهم به من التفسح في المجلس إذا قيل لهم تفسحوا، أو بنشوزهم إلى الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها، وجاء بلفظ الجلالة ترغيبًا في الامتثال لما للنفس من الشح بما يخالف المألوف.

أي: لا تعتقدوا أنه إذا فسح أحد منكم لأخيه إذا أقبل، أو إذا أمر بالخروج فخرج، أن يكون ذلك نقصًا في حقه، بل هو رفعة عند الله، والله تعالى لا يضيع ذلك له، بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة، فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره، ونشر ذكره.

 

سرّ التفضيل:

وأرشد سبحانه وتعالى أيضًا إلى صنف آخر يرفعهم درجات فقال: ﴿وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ أي يرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين، الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات، إذا عملوا بما أمروا به.

والمعنى أن الله سبحانه وتعالى يرفع الذين آمنوا درجات فوق من لم يؤمن. كما يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين درجات على من لم يؤتوا العلم، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات.

وفي هذه الآية فضيلة العلم، وأن زينته وثمرته التأدب بآدابه والعمل بمقتضاه، وأن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والإيمان لا بالسبق إلى صدور المجالس. قال ابن مسعود: ما خص الله العلماء في شيء من القرآن كما خصهم في هذه الآية.

 

سرّك مكشوف عند الله:

قَال الله تعالى في ختام الآية: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي: والله بأعمالكم أيها الناس ذو خبرة، لا يخفى عليه المطيع منكم ربه من العاصي، وهو يجازي كل واحد منكم على عمله: المحسن بالإحسان، والمسيء بما يستحق، أو يعفو عنه، وفيها تهديد لمن لم يتمثل الأمر أو استكرهه.

 

وفي الختام فإن هذه الآية تُعلّمنا أن التواضع والامتثال أوصل للرفعة من التزاحم والتشبث، وأن رفعة المؤمن والعالم بيد الله وحده؛ فهي منهج إصلاحي عظيم يربط بين حسن الأدب، وسمو الروح، وعلو المنزلة عند الله.

 

شاركنا رأيك:

الآية تعد بأن من يفسح يفسح الله له، ما المجالات التي تتمنى أن يوسعها الله عليك؟

..............................

المصادر:

تفسير الطبري، فتح البيان للقنوجي، تفسير ابن كثير، تفسير السعدي، تفسير القرطبي، نظم الدرر للبقاعي، تفسير البيضاوي، تفسير النسفي.

بحث

الأكثر تداولاً

ellipse
loading

مع تطبيق مصحف المدينة استمتع بتفسير شامل للآيات يساعدك على فهم القرآن الكريم بسهولة

حمل مصحف المدينة الآن

مدار للبرمجة © 2021 جميع الحقوق محفوظة لشركة مدار البرمجة