
إن تعظيم النبي ﷺ في القول والعمل من صميم الإيمان، وهو أدب قرآني لا يجوز الغفلة عنه. وقد جاء التحذير الإلهي صريحًا في آيةٍ تهزّ القلوب قبل الآذان. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات:2].
وجاء في سبب نزول هذه الأية عن ابنِ أبي مُلَيكةَ، قال: (كادَ الخَيِّرانِ أنْ يَهلِكَا: أبو بكرٍ وعمَرُ رضِيَ اللهُ عنهما! رفَعَا أصواتَهما عندَ النَّبيِّ ﷺ حينَ قَدِمَ عليه ركْبُ بني تَميمٍ، فأشار أحَدُهما بالأقرَعِ بنِ حابسٍ أخي بَني مُجاشِعٍ، وأشار الآخَرُ برَجُلٍ آخَرَ، فقال أبو بكرٍ لعُمَرَ: ما أردْتَ إلَّا خِلافي، قال: ما أردْتُ خِلافَك، فارتفَعَتْ أصواتُهما في ذلك، فأنزَلَ اللهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) .[رواه البخاري: 4845]
الأدب في حضرة النبي ﷺ:
قال ابن كثير في معنى قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ).
أي: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت نبي الله محمد ﷺ؛ فاخفضوا أصواتكم، وخاطبوه بأدب ولين وتعظيم واحترام.
قال ابن العربي في أحكام القرآن والأسيوطي في الإكليل:
استدل به العلماء على المنع من رفع الصوت بحضرة قبره ﷺ، وعند قراءة حديثه؛ لأن حرمته ميتًا كحرمته حيًا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه؛ فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به.
التعظيم والتوقير:
قال الله تعالى: (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)
قال ابن الجوزي في زاد المسير:
فيها قولان:
أحدهما: أن الجهر بالصوت في المخاطبة.
والثاني: لا تدعوه باسمه: يا محمد، كما يدعو بعضكم بعضًا، ولكن قولوا: يا رسول الله، ويا نبي الله.
فلا يكون الرسول ﷺ كأحدهم، بل يميزوه في خطابهم، كما تميز عن غيره، في وجوب حقه على الأمة، ووجوب الإيمان به، والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به, كما ذكر السعدي في تفسيره.
جاء في أضواء البيان للشنقيطي:
إن آيات من كتاب الله دلت على أن الله تعالى لا يخاطبه في كتابه باسمه، وإنما يخاطبه بما يدل على التعظيم والتوقير؛ كقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) [الأنفال: 64]، (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) [المائدة: 41]، (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) [المزمل: 1]، (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) [المدثر: 1]، مع أنَّه يُنادي غيرَه مِن الأنبياءِ بأسْمائِهم؛ كقولِه: (وَقُلْنَا يَا آَدَمُ) [البقرة: 35]، وقولِه: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ) [الصافات: 104]، وقولِه: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود: 46]، (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا) [هود: 48]، وقولِه: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) [الأعراف: 144]، وقولِه: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) [آل عمران: 55] ، وقولِه: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً) [ص:26].
تحذير وبشارة:
قال الله تعالى: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)
قال ابن جرير في تفسيره:
أي: لا تفعلوا ذلك؛ لئلا تبطل أعمالكم الصالحة وأنتم لا تعلمون بذلك.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ"، جَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ وَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ ﷺ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو مَا شَأْنُ ثَابِتٍ أَشْتَكَى؟ فَقَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لِجَارِي وَمَا عَلِمْتُ لَهُ شَكْوَى، قَالَ: فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ") [رواه البخاري: (3613) ومسلم (119)]
قال ابن تيمية في الفتاوى:
الصحابة على أن الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات، ولكن قد يحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة، ولا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة.
يقول ابن القيم في الوابل الصيب من الكلم الطيب:
معرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها ويبطلها ويحبطها بعد وقوعها؛ من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد، ويحرص على عمله ويحذره، فمحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر.
وقال في إعلام الموقعين:
إذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببًا لحبوط أعمالهم؛ فكيف تقديم آرائهم وعقولهم، وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به، ورفعها عليه؟! أليس هذا أولى أن يكون محبطًا لأعمالهم.
وفي الختام، فتعظيم النبي ﷺ قولًا وفعلاً ليس خيارًا، بل هو ركن من أركان الإيمان، وأدب واجب في حضرته وغيبته. فمَن عظَّمه نجا، ومَن تهاون في حرمته خسر من حيث لا يشعر.
رأيك يهمنا:
هل ترى أن مظاهر تعظيم النبي ﷺ حاضرة في بيوت المسلمين؟ وكيف يمكن تعزيزها؟