
في عالمٍ تتهاوى فيه القيم، وتتشابك فيه الموازين، تظلّ بعض الآيات القرآنية تطرق القلوب كناقوسِ يقظة، توقظ النائم وتُبصر الغافل. ومن بين هذه الآيات، تبرز آية عظيمة في سورة الأحزاب، تهزّ الكيان وتضع الإنسان وجهًا لوجه أمام مسؤوليته:
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72].
إنها ليست مجرد آية، بل مرآة تكشف حقيقة الإنسان، وتُضيء له درب التكليف الذي ارتجفت له السموات، وامتنعت عنه الجبال، بينما قبله الإنسان بكل ما فيه من ضعف ونقص.
معنى الأمانة في ضوء القرآن والسنة
جاءت "الأمانة" في هذه الآية على إطلاقها، فأخذت كل معاني التكليف التي أوكلها الله إلى خلقه، وأعظمها:
-
أمانة العقيدة والتوحيد: أن يعبد الإنسان ربَّه بإخلاص لا رياء فيه.
-
أمانة العمل والتقوى: أن يعمل الصالحات كما أُمِر، لا كما يهوى.
-
أمانة المسؤولية والوظيفة: أن يُؤدى واجباته بإتقان، ويُراعى فيها حقّ الله وحقّ الناس.
وقد قال النبي ﷺ:
«كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»
رواه البخاري (893) ومسلم (1829).
فالمسؤولية تكليف لا تشريف، وأمانة لا مصلحة.
رفضت السموات وحملها الإنسان
تأمل هذا المشهد القرآني المهيب:
السموات بما فيها من سعةٍ وعلو، والأرض بثقلها واتساعها، والجبال بشموخها، كلها أبت أن تتحمّل هذه الأمانة، خشية من أن تُقصّر، أو تُحاسب.
أما الإنسان، فحملها وهو لا يعلم مداها، وكان كما وصفه الله:
"ظلومًا جهولًا"، يظلم نفسه بالتقصير، ويجهل عواقب تفريطه.
رسالة معاصرة: الأمانة في زمن الغفلة
نعيش اليوم في زمن تتعدد فيه صور التفريط في الأمانة:
-
مسؤول يتقاعس عن أداء واجبه.
-
أب يضيع حقوق أولاده.
-
موظف لا يتقن عمله.
-
تاجر يغش في بيعه.
-
شاب يُضيّع بصره ووقته في ما لا يرضي الله.
وقد قال النبي ﷺ:
«لا إيمانَ لِمَن لا أمانةَ لهُ، ولا دينَ لِمَن لا عهدَ لهُ»
رواه أحمد (12575)، والحاكم (7301)، وصححه الألباني.
إنها دعوة لنُراجع أنفسنا:
هل أدّينا الأمانات التي وُكّلت إلينا؟
هل راعينا الله في أعمالنا، وفي كلماتنا، وفي خلواتنا قبل جَلواتنا؟
قال الشاعر
وإذا الأمانةُ ضُيِّعتْ فانتظرْ … يومًا تُكشَفُ فيهِ السَّوْءَةُ والعارُ
فالحقُّ يُرفَعُ بالرِّجالِ إذا … صانوا العُهودَ وحفِظوا الأسرارُ
وهكذا ترتبط نهضة الأمم بصدق أمانتها، وسقوطها بخيانة أهلها.
وختاما سؤال لك : هل أنت أهلٌ للأمانة؟
لقد أدركت الجبال حجم الأمانة فاعتذرت، ووعت الأرض خطورتها فامتنعت، أما نحن فحملناها!
فهل وعينا معناها؟ هل أدّينا حقها؟ أم أننا أغفلناها وسط زحام الحياة ولهو الأيام؟
أخى الكريم
:قف لحظة... وسل نفسك
🔸 هل أنا أمين في عملي؟
🔸 أمين في سري وعلانيتي؟
🔸 أمين في ديني وخلقي وقلبي؟
فالكلمة الصادقة قد توقظ ضميرًا، أو تزرع يقظةً، أو تعيد لإنسانٍ وجهته نحو الحق.