
القلب بيد الله، يقلبه كيف يشاء، فليس لأحد عليه سلطان إلا بإذن ربه، ومن أعظم الخوف أن يُحال بينك وبينه، فلا تهتدي إلى الحق وإن رأيته، ولا تستجيب له وإن سمعته. قال الله تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال:24].
لا تأمنوا أن يحول الله بينكم وبين قلوبكم:
والآية- كما قال الطبري في تفسيره- خبرٌ من الله عز وجل أنه أملك لقلوب عباده منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يُدرك به شيئًا من إيمان أو كفر، أو أن يَعِي به شيئًا، أو أن يفهم، إلا بإذنه ومشيئته. وذلك أن "الحول بين الشيء والشيء"، إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز جل ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبَه إدراكَه سبيلٌ.
قال الألوسي في روح المعاني:
معنى يحول بينه وبين قلبه، يميته، فيفوته الفرصة التي هو واجدها، وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليمًا كما يريد الله تعالى.
وزاده ابن القيم توضيحًا فقال:
إنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم. فلا يمكنكم بعد ذلك من الاستجابة، وعقوبة لكم على تركها بعد وضوح الحق واستبانته، فيكون كقوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهم كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وقوله: ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ وقوله: ﴿فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِن قَبْلُ﴾.
وأخرج أحمد في الزهد، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، أنه سمع غلامًا يدعو: اللهم إنك تحول بين المرء وقلبه، فحل بيني وبين الخطايا فلا أعمل بشيء منها، فقال عمر: رحمك الله ودعا له بخير.
فإياكم أن تردوا أمر اللّه أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها كيفما شاء، فينقلب من الإيمان إلى الكفر، ومن الكفر إلى الإيمان.
واستفاد العلماء من هذه الآية فوائد عظيمة، منها:
-
أن الله تعالى هو القادر على الحيلولة بين الإنسان وبين ما يشتهيه قلبه.
- التحذير من ترك الاستجابة بالقلب، وإن استجاب بالجوارح.
- الحض على المراقبة والخوف منه تعالى، والبدار إلى الاستجابة له.
- تنبيه على أنه تعالى مطلع من مكنونات القلوب على ما قد يغفل عنه أصحابها.
- الحث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها.
- تحذير المؤمنين من كل خاطر يخطر في القلوب.
- التحذير من التراخي في الاستجابة إلى دعوة الرسول ﷺ، والتنصل منها، أو التستر في مخالفته.
وكان النبي ﷺ أشد الناس خوفًا من تقلب القلوب:
فعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه، قال: (كان رسولُ اللهِ ﷺ يُكثِرُ أن يقولَ: يا مقلِّبَ القُلوبِ! ثبِّتْ قَلبي علَى دينِك، فقلتُ: يا نبيَّ اللهِ! آمنَّا بك وبما جئتَ بهِ، فهل تخافُ علَينا؟! قال: نعَم؛ إنَّ القُلوبَ بين أُصبعَينِ من أصابعِ اللهِ، يقلِّبُها كيف يشاءُ) [أخرجه الترمذي (2140)، وصححه الألباني]
وعن النوَّاسِ بنِ سمعانَ رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقولُ: (ما مِن قلبٍ إلَّا وهو بينَ أُصبعينِ مِن أصابعِ ربِّ العالمينَ، إن شاء أن يُقيمَه أقامه، وإن شاء أن يُزيغَه أزاغه. وكان يقولُ: يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قلوبَنا على دينِك) [أخرجه ابن ماجه (199) وصححه الألباني]
وبين ﷺ لاتباعه المؤمنين أن صلاح حال العبد بصلاح قلبه
فقال ﷺ: (ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ)[رواه البخاري (52) ومسلم (1599)]
أسباب فساد القلب:
وقد ذكر ابن القيم في مدارج السالكين خمسًا من أكثر مفسدات القلب، وهي:
- كثرة الخلطة،
- والتمني،
- والتعلق بغير الله،
- وكثرة الطعام،
- وكثرة المنام.
دواء القلب خمسة أشياء:
علق الله تبارك وتعالى نجاة العبد يوم القيامة على سلامة القلب، فقال سبحانه: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89]. فحري بالعبد أن يجتنب كل ما من شأنه أن يفسد عليه قلبه، وأن يسعى لطهارة قلبه وصلاحه.
قال إبراهيم الخواص:
دواء القلب خمسة أشياء:
- قراءة القرآن بالتدبر،
- وخلاء البطن،
- وقيام الليل،
- والتضرع عند السحر،
- ومجالسة الصالحين.
احفظ هذه الوصية:
قال ابن رجب:
فأفضل الناس من سلك طريق النبي ﷺ وخواص أصحابه في الاجتهاد في الأحوال القلبية فإن سفر الآخرة يقطع بسير القلوب لا بسير الأبدان.