
﴿اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُم وَهُم في غفْلةٍ مُعرِضُونَ﴾ [الأنبياء: ١]
هذه الآية الكريمة هي مفتتح سورة الأنبياء، ولطالما استوقفني هذا الاستفتاح البديع وما فيه من الإنذار والترهيب، وهو ما يجعل القارئ أو المستمع ينتبه مِن غفلته ويُحضر قلبه ويُلقي سمعه مُتدبِّرًا ما يُتلى عليه مُتعِظًا به.
قال ابنُ عاشور في تفسيره: «افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أُسْلُوبٌ بَدِيعٌ فِي الِافْتِتَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ غَرَابَةِ الْأُسْلُوبِ وَإِدْخَالِ الرَّوْعِ عَلَى الْمُنْذَرِينَ».
ولا يَخْفى ما في عُمُومِ (النّاسِ) مِنَ التَّرْهِيبِ البَلِيغِ … كَما أنَّ في تَسْمِيَةِ يَوْمِ القِيامَةِ، بِـ(يَوْمِ الحِسابِ) زِيادَةَ إيقاظٍ؛ لِأنَّ الحِسابَ هو الكاشِفُ عَنْ حالِ المَرْءِ. [محاسن التأويل للقاسمي]
قال ابنُ كثير -رحمه الله-:
«هذا تنبيهٌ من الله عز وجل على اقتراب الساعة ودنوها، وأن الناس في غفلةٍ عنها؛ أي لا يعملون لها ولا يستعدون مِن أجلها».
ماذا أعددت للقاء الله؟ 🤔
ويرى بعضُ أهلِ التفسير أن "المراد بقرب الحساب: الموت، وأنَّ مَن مات، قامت قيامته، ودخل في دار الجزاء على الأعمال، وأنَّ هذا تعجُّبٌ من كلِّ غافلٍ مُعرضٍ، لا يدري متى يفجأه الموتُ، صباحًا أو مساءً؟!، فهذه حالة الناس كلهم، إلا مَن أدركته العنايةُ الربانية، فاستعدَّ للموت وما بعده". [تفسير السعدي].
ومَن تدبر الآية وأيقن تمام الإيقان باقتراب الساعة «قصُرَ أملُهُ، وطابتْ نفْسُهُ بِالتّوْبة، ولم يركن إلى الدنيا، فكأنّ ما كان لم يكن إذا ذهب، وكل آتٍ قرِيبٌ، والموت لا محالة آتٍ، وموْتُ كل إنسانٍ قِيامُ ساعتِه» [تفسير القرطبي].
الغفلة أعظم مصيبة! 💔
عن أبي سعيدٍ، عن النبي ﷺ، في قوله: {فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}، قال: «في الدنيا» [رواه النسائي في السنن الكبرى (١١٢٦٩)].
إن أعظم مصيبة يُصاب بها الإنسانُ هي الغفلة عن الله والدار الآخرة ويوم الحساب؛ فالغفلة ستار ثقيل يحجب القلب والعقل، ويعمي البصيرة، ويصرف الإنسان عن معالي الأمور.
ومَن تأمل هذه الآية التي معنا بصدق، شعر بالندم يعصر قلبه، وبالحزن يملأ فؤاده، وقد تكون لحظة يقظة تغيّر مجرى حياته، كما وقع لبعض الصحابة رضوان الله عليهم؛ فقد رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كان يَبْنِي جِدَارًا فَمَرَّ بِهِ آخَرُ فِي يَوْمِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَالَ الَّذِي كَانَ يَبْنِي الْجِدَارَ: مَاذَا نَزَلَ الْيَوْمَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ الْآخَرُ: نَزَلَ "اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ" فَنَفَضَ يَدَهُ مِنَ الْبُنْيَانِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا بَنَيْتُ أَبَدًا وَقَدِ اقْتَرَبَ الْحِسَابُ. [تفسير القرطبي]
ورُوى في ترجمة عامر بن ربيعة، رضي الله عنه، أنه نزل به رجلٌ من العرب، فأكرم عامرٌ مثواه، وكلَّم فيه رسول الله ﷺ فجاءه الرجل فقال: إني استقطعت من رسول الله ﷺ واديًا في العرب، وقد أردتُ أن أقطع لك منه قطعةً تكون لك ولعقبك من بعدك، فقال عامر:
لا حاجة لي في قطيعتك، نزلتِ اليوم سورةٌ أذهلتْنا عن الدنيا: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [تفسير ابن كثير]
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي نواس الشاعر أنه قال: أشعرُ الناسِ أبو العتاهية حيث يقول:
الناس في غَفَلاتِهم … وَرَحا المنيَّة تطحن
فقيل له: مِن أين أخذ هذا؟ قال: مِن قول الله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}
لقد جاءت هذه الآية الكريمة بصيغة تنبيه صادع، يوقظ القلب الغافل؛ فهي دعوة للتأمل، ووقفة للمحاسبة، وتذكرة بقرب اللقاء والحساب. فطوبى لمن وعى وتدبر، وبادر بالتوبة والعمل الصالح قبل فوات الأوان.
🔄 إن وجدتَ في هذه الكلمات ما أيقظ قلبك، فلا تبخل بها على غيرك، وشارِكها مع من تحب لعل الله أن ينفع بها قلبًا غافلًا، ويجعل لك بها أجرًا لا ينقطع ... 📢 🤝