
حين يتأمل الإنسان في عظمة الكون: في السماوات المرفوعة بلا عمد، وفي الأرض الممهدة بما فيها من دقة وجمال، وفي نفسه التي تتقلب بين المشاعر والعقل والإرادة، لا بد أن يتوقف ويسأل نفسه: هل خُلق كل هذا عبثًا؟ هل الإنسان موجود فقط ليأكل ويشرب ويتكاثر، ثم يفنى؟
إن في أعماق كل نفس صوتًا فطريًا خفيًا يدعوها للتأمل في الغاية، ويحثها على التوقّف عن الانغماس في الغفلة والهوى.
ثم تأتي الآية الكريمة لتوقظ هذا النداء وتضرب على وتر الحقيقة بصوت صارم:
"أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون" (المؤمنون: 115)
جاءت هذه الآية في ختام سورة المؤمنون، بعد عرض مفصل لحياة المؤمنين والكافرين، فجاءت كصفعة روحية توقظ الغافلين.
"أفحسبتم": أظننتم، وخدعكم ظنكم أن الخلق بلا غاية؟
"أنما خلقناكم عبثًا": أي لهوًا ولعبًا، بلا حكمة ولا مقصد.
"وأنكم إلينا لا ترجعون": نفي لحقيقة البعث في تصور الغافلين، رغم أن الرجوع إلى الله أمر محتوم.
قال الإمام الطبري في تفسيره: وقوله: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ.
فأمات من شاء وما شاء، وأحيا من أراد وما أراد إلى أجل معلوم.
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا.
يقول: ليختبركم فينظر أيكم له ـ أيها الناس ـ أطوع، وإلى طلب رضاه أسرع.
وقال الإمام القرطبي: "العبث هو الفعل الذي لا غرض فيه، والله منزّه عن ذلك"
لمن لا يزال يتساءل: لماذا خلقنا؟
فقد بيّن الله عز وجل الغاية في سورة الملك، فقال:
"الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور" (الملك: 2)
هنا قدّم الموت على الحياة، وقد تساءل المفسرون عن ذلك.
-
قال أكثر المفسرين: إنما قُدِّم الموت لأنه أشد على النفوس، وأعظم زجرًا، وأنسب بالمقام، لأنه مقام تذكير ووعظ.
-
وقال بعضهم: الموت والحياة إشارة إلى الدنيا والآخرة، فالدنيا سُمّيت موتًا لكثرة ما فيها من الموت، والآخرة حياة لأنها لا موت فيها.
-
وأخرج الطبري عن قتادة أنه قال: "بدأ الله بذكر الموت لأنه أفظع في قلوب العباد، ولأنه مبدأ الآخرة، والحياة بعده تبع له".
دروس عظيمة:
1. الخلق له حكمة وغاية
قال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات: 56)
فلا وجود عبثي، ولا حياة بلا معنى. العبادة والطاعة هما الطريق.
2. الرجوع إلى الله حق
قال الله تعالى "وأنكم إلينا لا ترجعون"... تساؤل استنكاري لمن أنكروا البعث.
قال ﷺ: "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" (رواه الترمذي)
3. الاستعداد لما بعد الموت
قيل في الأثر: "من علم أن الرحيل قادم، لم يُغرق في اللهو"
وقال الشاعر: تزوّد من التقوى فإنك لا تدري - إذا جنّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجر
أيها القارئ الكريم... تأمل في قول ربك:
"أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون"
واسأل نفسك بصدق: ما غايتي؟ هل استعدت للقاء الله؟ هل حياتي تُرضي خالقي؟
ليكن لك من كل يوم توبة، ومن كل عمل نية، واسأل الله دومًا:
"اللهم اجعلنا ممن فهموا الغاية، واستعدوا للرجعة، وفازوا برضاك وجنتك. آمين."
شاركنا في التعليقات أخي الكريم، هل سألت نفسك هذا السؤال من قبل؟