
من الكلمات المؤثرة التي تردَّدتْ في سورة الأنبياء قولُ الله -جلَّ ثناؤه- في جوابه على دعوات أنبيائه واستغاثاتهم: (فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُ)، وهي كلمة تلامس القلب وتهز المشاعر، وتفيض عليك من معاني قرب الله تبارك وتعالى، وإحاطته علمًا بحالك، وسماعه دعاءَك، وجميل لطفه بك، واستجابته لك.
وتتكرر (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) في أربعة مواضع من سورة الأنبياء، ارتبطت بدعوات أنبياء كرام مرّوا بشدائد وضيق، فأظهروا صدق اللجوء إلى الله، فكانت الاستجابة من رب رحيم.
ولنتأمل قليلاً في هذه المواضع لنتعرف منها على مفاتيح استجابة الدعاء:
الموضع الأول: نوح عليه السلام
﴿وَنُوحًا إِذۡ نَادَىٰ مِن قَبۡلُ فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ فَنَجَّیۡنَـٰهُ وَأَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِیمِ ٧٦ وَنَصَرۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَاۤۚ إِنَّهُمۡ كَانُوا۟ قَوۡمَ سَوۡءࣲ فَأَغۡرَقۡنَـٰهُمۡ أَجۡمَعِینَ ٧٧﴾ [الأنبياء ٧٦-٧٧]
أي: واذكر عبدنا ورسولنا، نوحا عليه السلام، مثنيا مادحا، حين أرسله الله إلى قومه، فلبث فيهم ألف سنة، إلا خمسين عاما، يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن الشرك به، ويبدي فيهم ويعيد، ويدعوهم سرا وجهارا، وليلا ونهارا، فلما رآهم لا ينجع فيهم الوعظ، ولا يفيد لديهم الزجر، نادى ربه وقال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ْ﴾ فاستجاب الله له، فأغرقهم، ولم يُبقِ منهم أحدًا، ونجَّى الله نوحا وأهله، ومَن معه من المؤمنين، في الفلك المشحون، وجعل ذريته هم الباقين، ونصرهم الله على قومه المستهزئين. [تفسير السعدي]
إن نوحًا عليه السلام قد استفرغ كل الأسباب الممكنة في دعوة قومه … فلما أصروا على الكفر والإعراض، دعا عليهم فاستجاب الله له. وهذا توجيه لطيف لمن أراد استجابة دعائه أن يبذل كل الأسباب الممكنة في يديه مع صدق اللجوء إلى الله؛ فعندئذٍ تكون الاستجابة بإذن الله.
الموضع الثاني: أيوب عليه السلام
﴿وَأَیُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥۤ أَنِّی مَسَّنِیَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّ ٰحِمِینَ ٨٣ فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ فَكَشَفۡنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرࣲّۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِنَا وَذِكۡرَىٰ لِلۡعَـٰبِدِینَ ٨٤﴾ [الأنبياء ٨٣-٨٤]
أي: واذكر عبدنا (أيوب) في شكره وصبره وسرعة أوْبِتَه، وقد ابتليناه بالعافية والمال والولد؛ فشكر، وابتليناه بالمرض وذهاب المال والأهل والولد؛ فصبر. اذكره ﴿إذْ نادىٰ رَبَّهُ﴾ أي داعياً ضارعاً بعد بلوغ البلاء منتهاه ﴿أنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وأَنتَ أرْحَمُ ٱلرّاحِمِينَ﴾﴿فَٱسْتَجَبْنا لَهُ﴾ دعاءه ﴿فَكَشَفْنا ما بِهِ مِن ضُرٍّ وآتَيْناهُ أهْلَهُ﴾ من زوجة وولد ﴿ومِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ﴾ أي ضاعف له ما أخذه منه بالابتلاء بعد الصبر. [أيسر التفاسير].
يقول ابن القيم رحمة الله عليه:
"جَمَعَ أيوبُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في هذا الدُّعاءِ بينَ: حقيقةِ التَّوحيدِ، وإظهارِ الفَقرِ والفاقةِ إلى رَبِّه، ووجودِ طَعْمِ المحبةِ في المُتَمَلَّقِ له، والإقرارِ له بصِفةِ الرَّحمةِ، وأنَّه أرحَمُ الرَّاحمينَ، والتوسُّلِ إليه بصفاتِه سُبحانَه، وشِدَّةِ حاجتِه، وهو فَقرُه، ومتى وَجَدَ المُبتلَى هذا كُشِفَ عنه بَلواه". [الفوائد، ص: 201]
ومن أدب أيوب عليه السلام في دعائه أنه عبر عما نزل به من ضُرٍّ بالمَسِّ؛ فكأنه جعَلَ ما حَلَّ به مِن الضُّرِّ كالمَسِّ الخفيفِ [تفسير ابن عاشور].
ومن أدبه في دعائه أيضًا أنه "ذكَرَ نفْسَه بما يُوجِبُ الرَّحمةَ، وذَكَرَ ربَّهُ بغايةِ الرَّحمةِ، ولم يُصرِّحْ بالمطلوبِ، ولم يُعيِّنِ الضُّرَّ الَّذي مَسَّه" [تفسير أبي حيان].
الموضع الثالث: يونس عليه السلام
﴿وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـٰضِبࣰا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَیۡهِ فَنَادَىٰ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنتَ سُبۡحَـٰنَكَ إِنِّی كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ٨٧ فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ وَكَذَ ٰلِكَ نُـۨجِی ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٨٨﴾ [الأنبياء ٨٧-٨٨]
أي: واذكر قصة صاحب الحوت، وهو يونس بن مَتّى عليه السلام، أرسله الله إلى قومه فدعاهم فلم يؤمنوا، فتوعَّدهم بالعذاب فلم ينيبوا، ولم يصبر عليهم كما أمره الله، وخرج مِن بينهم غاضبًا عليهم، ضائقًا صدره بعصيانهم، وظن أن الله لن يضيِّق عليه ويؤاخذه بهذه المخالفة، فابتلاه الله بشدة الضيق والحبس، والتقمه الحوت في البحر، فنادى ربه في ظلمات الليل والبحر وبطن الحوت -تائبًا معترفًا بظلمه؛ لتركه الصبر على قومه- قائلًا: لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين؛ فاستجبنا له دعاءه، وخلَّصناه مِن غمِّ هذه الشدة، وكذلك ننجي المصدِّقين العاملين بشرعنا. [التفسير الميسر]
يقول ابن القيم رحمة الله عليه: "دعوة ذي النُّون فيها من كمال التَّوحيد والتَّنزيه للرَّبِّ تعالى واعترافِ العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهمِّ والغمِّ، وأبلغ الوسائل إلى الله سبحانه في قضاء الحوائج … فهاهنا أربعة أمورٍ قد وقع التَّوسُّل بها: التَّوحيد والتَّنزيه والعبوديَّة والاعتراف" [زاد المعاد (4 /190)].
وهذا الدعاء تضمن ثلاثة أمور استحق بها يونسُ أن ينجوَ بها من بطن الحوت؛ فقد أقر لله تعالى بكمال الألوهية: ﴿لا إله إلا أنت﴾، ونزَّهه عن كل نقص وعيب وآفة: ﴿سبحانك﴾، واعترف بظلم نفسه وجنايته: ﴿إني كنت من الظالمين﴾ [تفسير السعدي]
ولهذا؛ يقول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شأن هذا الدعاء خاصةً:
«دَعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا وهو في بَطنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ؛ فإنَّه لم يَدْعُ بها رجُلٌ مُسلِمٌ في شَيءٍ قَطُّ إلَّا استجابَ اللهُ له» [صحيح سنن الترمذي (3505)].
الموضع الرابع: زكريا عليه السلام
﴿وَزَكَرِیَّاۤ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ رَبِّ لَا تَذَرۡنِی فَرۡدࣰا وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلۡوَ ٰرِثِینَ ٨٩ فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَوَهَبۡنَا لَهُۥ یَحۡیَىٰ وَأَصۡلَحۡنَا لَهُۥ زَوۡجَهُۥۤۚ إِنَّهُمۡ كَانُوا۟ یُسَـٰرِعُونَ فِی ٱلۡخَیۡرَ ٰتِ وَیَدۡعُونَنَا رَغَبࣰا وَرَهَبࣰاۖ وَكَانُوا۟ لَنَا خَـٰشِعِینَ ٩٠﴾ [الأنبياء ٨٩-٩٠]
أي: واذكر - أيها الرسول - قصة زكريا عليه السلام إذ دعا ربه سبحانه قائلًا: رب، لا تتركني منفردًا لا ولد لي، وأنت خير الباقين، فارزقني ولدًا يبقى بعدي؛ فأجبنا له دعوته، وأعطيناه يحيى ولدًا، وأصلحنا زوجه، فصارت ولودًا بعد أن كانت لا تلد [المختصر في التفسير]
ثم بين الله جل ثناؤه أسباب إجابة دعوتهم: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ أي: يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، ويكملونها على الوجه اللائق الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها، إلا انتهزوا الفرصة فيها، ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ أي: يسألوننا الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوذون بنا من الأمور المرهوب منها، من مضار الدارين، وهم راغبون راهبون لا غافلون، لاهون ولا مدلون، ﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ أي: خاضعين متذللين متضرعين، وهذا لكمال معرفتهم بربهم. [تفسير السعدي]
دلّت هذه النماذج من دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على أن استجابة الدعاء مرهونة بصدق التوحيد، وبذل الجهد والأسباب، وإظهار الافتقار إلى الله، مع ملازمة الطاعة والخشوع. فمَن جمع هذه المعاني نال من الله القبول والعطاء، وسمع في حياته صدى الكلمة المؤثرة: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾.
🌿 هل لامستْك كلمة ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾؟ .. شاركنا تأملاتك، فقد تكون سببًا في إلهام غيرك..