
تحكي قصة بقرة بني إسرائيل مثالًا حيًا على التعنت ومخالفة أوامر الله تعالى، إذ كُلفوا بأمر يسير فشددوا على أنفسهم حتى شُدد عليهم، ومن خلال هذه القصة يظهر مدى جحودهم، وإعراضهم عن الامتثال لأوامر الله، قال الله تعالى: (وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦۤ إِنَّ ٱللَّهَ یَأۡمُرُكُمۡ أَن تَذۡبَحُوا۟ بَقَرَةࣰۖ قَالُوۤا۟ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوࣰاۖ قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡجَـٰهِلِینَ) [البقرة:67]
توبيخ بني إسرائيل على ما فعله أسلافهم:
وهذه الآية مما وبخ الله بها بني إسرائيل، في نقض أوائلهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه، والمعنى: واذكروا من نكثكم ميثاقي ما كان منكم مع نبي الله تعالى موسى عليه السلام إذا أمركم بذبح بقرة فجادلتم وتعنتم.
كما أنكم وصفتم ما طلبه منكم بأنه من قبيل الاستهزاء والسخرية (قَالُوۤا۟ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوࣰاۖ) ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله هزؤ أو لعب، إذ أنهم ظنوا بموسى أنه في أمره إياهم بذبح البقرة عند محاولتهم معرفة القاتل أنه هازئ لاعب، ولم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبي الله، وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة.
وكان رجل من بني إسرائيل، وكان غنيًا ولم يكن له ولد، وكان له قريب وارثه، فقتله ليرثه، ثم ألقاه على الطريق، وأتى موسى فقال له: إن قريبي قتل، وإني لا أجد أحدًا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله. وبعض المفسرين ذكر أن الذي قتل القتيل، كان أخا المقتول، وذكر بعضهم أنه كان ابن أخيه، وقال بعضهم: بل كانوا جماعة ورثة استبطؤوا موته، إلا أنهم جميعًا متفقون على أن موسى عليه السلام إنما أمرهم بذبح البقرة من أجل معرفة القاتل. فقالوا: أتهزأ بنا؟
فأخبرهم موسى أن المخبر عن الله جل ثناؤه بالهزء والسخرية، من الجاهلين، وبرأ نفسه مما ظنوا به من ذلك فقال: ﴿أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡجَـٰهِلِینَ﴾، يعني من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والباطل.
تعنت في مواجهة أمر الله تعالى:
فلم يستجيبوا لأمر الله، بل (قَالُوا۟ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ یُبَیِّن لَّنَا مَا هِیَۚ قَالَ إِنَّهُۥ یَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةࣱ لَّا فَارِضࣱ وَلَا بِكۡرٌ عَوَانُۢ بَیۡنَ ذَ ٰلِكَۖ) فسألوا عن صفة البقرة تعنتًا منهم، فعاقبهم الله بأن حصر ذبح ما كان أمرهم بذبحه من البقر على نوع منها دون نوع، ولو أنهم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، اختاروا بقرة من البقر فذبحوها، لكفتهم، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم.
ولذلك قال نبينا ﷺ لأمته (ما نَهَيْتُكُمْ عنْه فَاجْتَنِبُوهُ، وَما أَمَرْتُكُمْ به فَافْعَلُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ، فإنَّما أَهْلَكَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ، كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ علَى أَنْبِيَائِهِمْ) [رواه مسلم (1337)].
ونبههم نبي الله موسى بوجوب الامتثال إلى أمر الله دون مراوغة أو تعنت (فَٱفۡعَلُوا۟ مَا تُؤۡمَرُونَ) به أي من ذبح البقرة ولا تكثروا السؤال، وهذا تجديد للأمر وتأكيد له وزجر لهم عن التعنت، فلم ينفعهم ذلك، واستمروا على عادتهم فـ (قَالُوا۟ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ یُبَیِّن لَّنَا مَا لَوۡنُهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ یَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةࣱ صَفۡرَاۤءُ فَاقِعࣱ لَّوۡنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّـٰظِرِینَ) فشدد الله عليهم مرة أخرى في لون البقرة المطلوبة.
وعدوا بالاهتداء وتوعدهم الله بإظهار ما يكتمون:
ولم يقفوا عن ذلك الحد من التعنت والمبالغة وتجاوزا فـ (قَالُوا۟ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ یُبَیِّن لَّنَا مَا هِیَ إِنَّ ٱلۡبَقَرَ تَشَـٰبَهَ عَلَیۡنَا وَإِنَّاۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ لَمُهۡتَدُونَ) وقد وعدوا من أنفسهم بالإهتداء إلى ما دلهم عليه والامتثال لما أمروا به، ولو لم يستثنوا لما بينت لهم إلى آخر الدهر، فاجابهم إلى ما طلبوا (قَالَ إِنَّهُۥ یَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةࣱ لَّا ذَلُولࣱ تُثِیرُ ٱلۡأَرۡضَ وَلَا تَسۡقِی ٱلۡحَرۡثَ مُسَلَّمَةࣱ لَّا شِیَةَ فِیهَاۚ).
﴿قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ أي: بالبيان الواضح، وهذا من جهلهم، وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة. ولم يجدوا البقرة التي نعتت لهم، إلا بثمن باهظ للغاية، فاشتروها ﴿فَذَبَحُوهَا﴾ أي: البقرة التي وصفت بتلك الصفات، ﴿وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ بسبب التعنت الذي جرى منهم.
وتوعدهم الله تعالى بأنه سيظهر ما يريدون كتمانه من الحق (وَإِذۡ قَتَلۡتُمۡ نَفۡسࣰا فَٱدَّ ٰرَ ٰٔۡ تُمۡ فِیهَاۖ وَٱللَّهُ مُخۡرِجࣱ مَّا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ). عن المسيب بن رافع قال ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك في كتاب الله ﴿وَإِذۡ قَتَلۡتُمۡ نَفۡسࣰا فَٱدَّ ٰرَ ٰٔۡ تُمۡ فِیهَاۖ وَٱللَّهُ مُخۡرِجࣱ مَّا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ﴾.
قال الله تعالى:(فَقُلۡنَا ٱضۡرِبُوهُ بِبَعۡضِهَاۚ كَذَ ٰلِكَ یُحۡیِ ٱللَّهُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَیُرِیكُمۡ ءَایَـٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ) أي أمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظمًا منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتًا كما كان، فأخذوا قاتله وهو الذي كان أتى موسى فشكى إليه، فقتله الله على سوء عمله.
وهكذا يتجلى لنا أن طاعة الله ورسوله سبيل النجاة، وأن التشدد وكثرة الجدل سبيل للهلاك، فالعبرة أن نمتثل لأمر الله بصدق وتسليم، لعلنا نكون من الذين يعقلون ويتدبرون.
..................
المصادر:
تفسير الطبري
تفسير ابن كثير
تفسير السعدي
فتح البيان للقنوجي