"ربِح الْبَيْعُ صُهَيْبُ".. حكاية آية تهز القلوب!

"ربِح الْبَيْعُ صُهَيْبُ".. حكاية آية تهز القلوب!
2025/04/08

﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَشۡرِی نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ﴾ [البقرة ٢٠٧]

للوقوف على معنى الآية وفهمهما نحتاج أن نرجع للآيات السابقة عليها؛ لنفهم السياق التي وردت فيه؛ حيث يقولُ اللهُ جلَّ ثناؤه: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَیُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِی قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِی ٱلۡأَرۡضِ لِیُفۡسِدَ فِیهَا وَیُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ * وَإِذَا قِیلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتۡهُ ٱلۡعِزَّةُ بِٱلۡإِثۡمِۚ فَحَسۡبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَشۡرِی نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ﴾ [البقرة ٢٠٤ - ٢٠٧]

🛡️وجهان للناس في هذه الآيات!

فالآياتُ تتحدث عن صنفيْن وفريقيْن من الناس: 

  • المنافقين: ممَّن "يعجبك -أيها الرسول- كلامه الفصيح الذي يريد به حظًّا من حظوظ الدنيا لا الآخرة، ويحلف مستشهدًا بالله على ما في قلبه من محبة الإسلام، وفي هذا غاية الجرأة على الله، وهو شديد العداوة والخصومة للإسلام والمسلمين. وإذا خرج مِن عندك أيها الرسول، جَدَّ ونَشِط في الأرض ليفسد فيها، ويتلف زروع الناس، ويقتل ماشيتهم. والله لا يحب الفساد. وإذا نُصِح ذلك المنافق المفسد، وقيل له: اتق الله واحذر عقابه، وكُفَّ عن الفساد في الأرض، لم يقبل النصيحة، بل يحمله الكِبْرُ وحميَّةُ الجاهلية على مزيد من الآثام، فَحَسْبُه جهنم وكافيته عذابًا، ولبئس الفراش هي". [التفسير الميسر].

  • المؤمنين: ممَّن "يبيعون أنفسَهم، ويبذُلون أرواحَهم من أجلِ أنْ ينالوا رضا الله عزَّ وجلَّ، والله ذو رأفةٍ بعبادِه، وخاصَّة مَن باعوا أنفسَهم له جلَّ وعلا، ومِن رأفته بهم توفيقُه لهم ورضاه عنهم.". [التفسير المحرر].

🌟كلمة ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ هل تعني شخصًا مُعينًا أو هي عامة؟

قال بعضُ المفسرين: إنها تعني شخصًا معينًا وهو: صهيب الرومي لما أراد أن يهاجر من مكة ومنعه كفار مكة، وستأتي قصته عند الحديث عن سبب نزول الآية.

وقال أكثرُ المفسرين: بل هي عامة لكل المؤمنين المجاهدين في سبيل الله، قالوا: ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ [التوبة ١١١].

 وهذا القول أصح؛ أنها للعموم، حتى لو صحَّ أن سبب نزولها قصة صهيب؛ فإنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب [تفسير ابن عثيمين].

📖 قصة نزول الآية

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَجَمَاعَةٌ: نَزَلَتْ فِي صُهيب بْنِ سنَان الرُّومِيِّ، وَذَلِكَ أنَّه لَمَّا أَسْلَمَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْهِجْرَةَ، مَنَعَهُ النَّاسُ أَنْ يُهَاجِرَ بِمَالِهِ، وإنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَجَرَّدَ مِنْهُ وَيُهَاجِرَ، فَعَل.

فَتَخَلَّصَ مِنْهُمْ وَأَعْطَاهُمْ مَالَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذِهِ الآيَةَ، فَتَلَقَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجَمَاعَةٌ إِلَى طَرَفِ الْحَرَّةِ. فَقَالُوا: رَبح الْبَيْعُ. فَقَالَ: وَأَنْتُمْ فَلَا أَخْسَرَ اللَّهُ تِجَارَتَكُمْ، وَمَا ذَاكَ؟ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ. وَيُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "ربِح الْبَيْعُ صُهَيْبُ، رَبِحَ الْبَيْعُ صُهَيْبُ". [تفسير ابن كثير]

وعَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ: "أنَّ صُهَيْبًا، أقْبَلَ مُهاجِرًا نَحْوَ النَّبِيِّ ﷺ، فَتَبِعَهُ نَفَرٌ مِن قُرَيْشٍ مُشْرِكُونَ، فَنَزَلَ وانْتَثَلَ كِنانَتَهُ، فَقالَ: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ عَلِمْتُمْ أنِّي أرْماكم رَجُلاً بِسَهْمٍ، وأيْمُ اللَّهِ لا تَصِلُونَ إلَيَّ حَتّى أرْمِيَكم بِكُلِّ سَهْمٍ في كِنانَتِي، ثُمَّ أضْرِبَكم بِسَيْفِي، ما بَقِيَ في يَدِي مِنهُ شَيْءٌ، ثُمَّ شَأْنُكم بَعْدُ. وقالَ: إنْ شِئْتُمْ دَلَلْتُكم عَلى مالِي بِمَكَّةَ، وتُخَلُّونَ سَبِيلِي؟

قالُوا: فَدُلَّنا عَلى مالِكَ بِمَكَّةَ ونُخَلِّي عَنْكَ، فَتَعاهَدُوا عَلى ذَلِكَ، فَدَلَّهُمْ، وأُنْزِلَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ القُرْآنُ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ واللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ﴾ فَلَمّا رَأى رَسُولُ اللَّهِ صُهَيْبًا، قالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: رَبِحَ البَيْعُ يا أبا يَحْيى - رَبِحَ البَيْعُ يا أبا يَحْيى رَبِحَ البَيْعُ يا أبا يَحْيى. وقَرَأ عَلَيْهِ القُرْآنَ، يَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ واللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ﴾" [تفسير ابن أبي حاتم].

في رواية عند الحاكم في المستدرك أنهم قالوا له: "أتيتنا صعلوكا فكثُر مالك عندنا، ثم تريد أن تخرج بنفسك ومالك؟!، والله لا يكون ذلك، فقال: أرأيتم إن تركت مالي لكم هل تخلون سبيلي؟، قالوا: نعم، فدلّهم على الموضع الذي خبّأ فيه ماله بمكّة"؛ فعندها سمحوا له بإتمام هجرته إلى المدينة، بعد أن ضحّى بكل ما يملك في سبيل دينه.

💰الصفقة الأعظم: باع ماله فاشترى الجنة
ولهذا؛ كانت هجرة صهيب رضي الله عنه، صورةً من صور الهجرة التي تجلّت فيها معاني التضحية بالمال وبذله رخيصًا في سبيل الله؛ فكان جديرًا ببشارة "ربِح الْبَيْعُ صُهَيْبُ، رَبِحَ الْبَيْعُ صُهَيْبُ" أيْ: فازَ صُهَيبٌ في بَيعِه نفْسَه للهِ، وقد سمَّى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك بَيعًا؛ لأنَّه اشتَرى نفْسَه مِن قُرَيشٍ بمالِه، وهاجَرَ في سَبيلِ اللهِ، وما خرَجَ عن فَقرٍ ولا عن حاجةٍ، بل ترَكَ المالَ، وفادى نفْسَه، وجاء مُهاجِرًا، وصدَقَ فيه قَولُه تَعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207].

وكان من أمر صهيبٍ رضي الله عنه أن أباه أو عَمَّه كان عامِلاً لكِسرَى على الأُبُلَّةِ بالعِراقِ، وكانتْ مَنازِلُهم بأرضِ المَوصِلِ في قَريةٍ على شَطِّ الفُراتِ، ممَّا يَلي الجَزيرةَ والمَوصِلَ، فأغارَتِ الرُّومُ على تلك النَّاحيةِ فسَبَتْ صُهَيبًا وهو غُلامٌ صَغيرٌ، فنشَأَ صُهَيبٌ بالرُّومِ حتى عرَفَ لُغَتَهم وتَكلَّمَ بها، فابتاعَتْه منهم قَبيلةُ كَلْبٍ، ثم قدِمَتْ به مكَّةَ، فاشتَراه عَبدُ اللهِ بنُ جُدْعانَ، فأعتَقَه، فأقامَ بمكَّةَ حتى هلَكَ ابنُ جُدْعانَ، فلمَّا بُعِثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أسلَمَ هو وعَمَّارُ بنُ ياسرٍ في يومٍ واحدٍ بعدَ بِضْعةٍ وثَلاثينَ رَجُلاً.

📜 قصة إسلامه

في لحظة مفصلية على عتبة دار الأرقم، التقى عمار بن ياسر، رضي الله عنه، بـ "صهيب الرومي"، رضي الله عنه، وسأله: ماذا تريد؟ فأجابه: ماذا تريد أنت؟ قال له: أريد أن أدخل على محمد، فأسمع ما يقول. قال: وأنا أريد ذلك!

فدخلا سويًّا على النبي ﷺ، فعرض عليهما الإسلام، فأسلما من فورهما، وخرجا في المساء مؤمنَين، وهما مستخفيان، وقد صارا من أوائل السابقين إلى نور الإسلام.

ولم يكن إسلامُ صهيبٍ مجردَ لحظة عابرة؛ بل سبقٌ خالد، حتى رُوي عن النبيِّ ﷺ أنه قال: "السُّبَّاقُ أربعةٌ: أنا سابقُ العربِ، وصهيبٌ سابقُ الرومِ، وسلمانُ سابقُ الفرسِ، وبلالٌ سابقُ الحبشِ" [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (7288) (8/29)، والحاكم (5715)، وأبو نعيم في الحلية (1/185)].

📌الخسارة في الدنيا = ربح عند الله

وأعظم فائدة نتعلمها من قصة صهيبٍ رضي الله عنه أن كلَّ خسارة تلحق بالمسلم في سيره إلى الله عز وجل وفي سبيل دينه إنما هي ربح، وربحٌ مضاعف، كما سمَّى النبيُّ ﷺ خسارة صهيب لماله وما يملك من متاع الدنيا ربحًا.

وما أجمل ما قال الرازي في تفسيره: «يدخل تحت هذا كلُّ مشقةٍ يتحملها الإنسانُ في طلب الدين؛ فيدخل فيه المجاهد، ويدخل فيه الباذل مهجته الصابر على القتل، كما فعله أبو عمار وأمه، ويدخل فيه الآبق من الكفار إلى المسلمين، ويدخل فيه المشتري نفسه من الكفار بماله كما فعل صهيب، ويدخل فيه مَن يظهر الدين والحق عند السلطان الجائر.

ورُوي أنَّ عمر رضي الله تعالى عنه بعث جيشًا فحاصروا قصرًا فتقدم منهم واحد، فقاتل حتى قُتل، فقال بعضُ القوم: (ألقى بيده إلى التَّهلُكة)، فقال عمر: (كذبْتُم رحم الله أبا فلان)، وقرأ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: 207].

ثم اعلم أن المشقة التي يتحملها الإنسان لا بد وأن تكون على وفق الشرع حتى يدخل بسببه تحت الآية، فأما لو كان على خلاف الشرع فهو غير داخل فيه بل بعد ذلك من باب إلقاء النفس في التهلكة نحو ما إذا خاف التلف عند الاغتسال من الجنابة ففعل». [مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (5/ 351)].

وهكذا، تبقى آيةُ «وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَشۡرِی نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ» شاهدًا خالدًا على عظمة التضحية في سبيل الله، ورفعة مَن باع دنياه ليرضي مولاه.

✨ شاركنا تأملاتك في هذه القصة العظيمة، أو رشّح المقال لمن تحب لعلّه يجد فيه ما يوقظ قلبه!💬📤

بحث

الأكثر تداولاً

مع تطبيق مصحف المدينة استمتع بتفسير شامل للآيات يساعدك على فهم القرآن الكريم بسهولة

حمل مصحف المدينة الآن

مدار للبرمجة © 2021 جميع الحقوق محفوظة لشركة مدار البرمجة