
في قصص القرآن عبرةٌ وعِظَةٌ لأصحاب العقول السليمة ﴿لَقَدۡ كَانَ فِی قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةࣱ لِّأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِۗ﴾ [يوسف ١١١]، وتنزلتْ تسليةً وتثبيتًا للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ﴿وَكُلࣰّا نَّقُصُّ عَلَیۡكَ مِنۡ أَنۢبَاۤءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَۚ﴾ [هود ١٢٠]، وهي كذلك لأمته من بعده، فيها دروس وعبر، وتثبيتٌ لكل مَن سار على درب الأنبياء وانتهج سبيلهم.
ونحن اليوم مع قصة «رجل» انتصب مُدافِعًا عن الحقِّ مُناصِرًا لرسل الله عز وجل في مقابل قومِه الذين كذبوا الرسلَ وهمُّوا أن يبطشوا بهم رجمًا أو تعذيبًا؛ فناله ما ناله في سبيل نصرة الحق والمنافحة عنه!
وتبدأ القصة حين أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلًا أَصۡحَـٰبَ ٱلۡقَرۡیَةِ إِذۡ جَاۤءَهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ﴾ [يس ١٣]
أي: واضرب لهؤلاء المكذبين برسالتك، الرادين لدعوتك، مثلا يعتبرون به، ويكون لهم موعظة إن وُفقوا للخير، وذلك المثل: أصحاب القرية، وما جرى منهم من التكذيب لرسل اللّه، وما جرى عليهم من عقوبته ونكاله. [تفسير السعدي]
ولم تذكر الآيات اسم القرية ولا مَن هم أصحابُها؛ إذ لا فائدة لذلك، ولو كان في ذكره فائدةٌ لما أغفله القرآن؛ ولهذا مضى القرآن في سرد قصتهم وصولا إلى العبرة المرجوة من ورائها.
والمعنى الإجمالي للآيات [من ١٣إلى 19] من سورة يس:
واذكُرْ لِقَومِك -يا محمَّدُ- خبَرَ أصحابِ القَريةِ إذ جاءَها رُسُلٌ مِن اللهِ لِدَعوةِ أهلِها؛ إذ أرسَلْنا إليهم رَسولَينِ فكَذَّبوهما، فقَوَّيْناهما برَسولٍ ثالثٍ، فقال الرُّسُلُ الثَّلاثةُ لهم: إنَّا رُسُلُ اللهِ إليكم. فردَّ عليهم أهلُ القريةِ: ما أنتم إلَّا بَشَرٌ مِثلُنا، وما أنزَلَ الرَّحمنُ إليكم مِن شَيءٍ مِمَّا تَدْعونَنا إليه، ما أنتم إلَّا كاذِبونَ!
فقال لهم رُسُلُهم: ربُّنا يَعلَمُ أنَّا مُرسَلونَ إليكم، وما علينا إلَّا أن نُبَلِّغَكم ما أرسَلَنا اللهُ به إليكم. قال أهلُ القريةِ لرُسُلِهم: إنَّا تشاءَمْنا بكم، لئِنْ لم تَكُفُّوا عن دعوتِكم لَنَرجُمَنَّكم بالحِجارةِ، ولَيُصيبَنَّكم مِنَّا عذابٌ أليمٌ! قالت لهم رُسُلُهم: شُؤمُكم الَّذي جَلَب لكم البلاءَ معكم؛ بسَبَبِ ضَلالِكم، أئِنْ دَعَوْناكم للحَقِّ قُلْتُم هذا؟ بل أنتم قومٌ مُجاوِزون للحَدِّ! [التفسير المحرر]
لماذا جاء "يسعى"؟!
وإذ بلغ الصراع بين الحق والباطل هذا المبلغ، يظهر في المشهد هذا «الرجل» الذي جاء يسعى من طرف المدينة، في إشارةٍ إلى أنه «جَاءَ مُسْرِعًا وَأَنَّهُ بَلَغَهُ هَمُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِرَجْمِ الرُّسُلِ أَوْ تَعْذِيبِهِمْ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْصَحَهُمْ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ وَعَلَى الرُّسُلِ، وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ يُفِيدُ أَنَّهُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي الْإِسْرَاع إِلَى تَغْيِير الْمُنْكَرِ» [تفسير ابن عاشور].
قال ابن إسحاق -فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب الأحبار ووهب بن منبه-: إن أهل القرية همُّوا بقتل رسلهم، فجاءهم رجلٌ من أقصى المدينة يسعى؛ أي: لينصرهم مِن قومه، قالوا: وهو حبيب، وكان يعمل الجرير وهو الحبال، وكان رجلًا سقيمًا قد أسرع فيه الجذام، وكان كثير الصدقة يتصدَّق بنصف كسبه مستقيم الفطرة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: اسم صاحب يس "حبيب النجار"، فقتله قومه.[تفسير ابن كثير]
وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ - إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 13 - 14] لِكَيْ تَكُونَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ فَأَتَوْا أَهْلَ الْقَرْيَةِ فَدَعَوْهُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ فَكَذَّبُوهُمْ فَأَتَوْا عَلَى رَجُلٍ فِي نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ فِي زَرْعٍ لَهُ فَسَأَلَهُمُ الرَّجُلُ: مَا أَنْتُمْ قَالُوا: نَحْنُ رُسُلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أُرْسِلْنَا إِلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ نَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ لَهُمْ: أَتَسْأَلُونَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَأَلْقَى مَا فِي يَدِهِ ثُمَّ أَتَى أَهْلَ الْمَدِينَةِ {قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 20] [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (2/ 247)]
فكأنَّ قومه لم يقبلوا نصحه، بل عادوا لائمين له على اتباع الرسل، وإخلاص الدين للّه وحده، فقال: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي: وما المانع لي من عبادة من هو المستحق للعبادة، لأنه الذي فطرني، وخلقني، ورزقني، وإليه مآل جميع الخلق، فيجازيهم بأعمالهم، فالذي بيده الخلق والرزق، والحكم بين العباد، في الدنيا والآخرة، هو الذي يستحق أن يعبد، ويثنى عليه ويمجد، دون من لا يملك نفعا ولا ضرا، ولا عطاء ولا منعا، ولا حياة ولا موتا ولا نشورا، ولهذا قال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ} لأنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه، فلا تغني شفاعتهم عني شيئا، وَلا هُمْ يُنْقذون من الضر الذي أراده الله بي.
{إِنِّي إِذًا} أي: إنْ عبدتُ آلهةً هذا وصفُها {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} فجمع في هذا الكلام، بين نصحهم، والشهادة للرسل بالرسالة، والاهتداء والإخبار بِتعيُّن عبادة الله وحده، وذكر الأدلة عليها، وأن عبادة غيره باطلة، وذكر البراهين عليها، والإخبار بضلال من عبدها، والإعلان بإيمانه جهرا، مع خوفه الشديد من قتلهم، فقال: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} فقتله قومه، لما سمعوا منه وراجعهم بما راجعهم به.
فـ {قِيلَ} له في الحال: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} فقال مخبرا بما وصل إليه من الكرامة على توحيده وإخلاصه، وناصحا لقومه بعد وفاته، كما نصح لهم في حياته: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} أي: بأي: شيء غفر لي، فأزال عني أنواع العقوبات، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} بأنواع المثوبات والمسرات، أي: لو وصل علم ذلك إلى قلوبهم، لم يقيموا على شركهم. [تفسير السعدي]
ثم أخبر الله تبارك وتعالى عما نزل بأهل هذه القرية من عذاب أهلكهم:
﴿ وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِن جُندٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ (28) إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ خَٰمِدُونَ (29) يَٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ (30) أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ أَنَّهُمۡ إِلَيۡهِمۡ لَا يَرۡجِعُونَ (31) وَإِن كُلّٞ لَّمَّا جَمِيعٞ لَّدَيۡنَا مُحۡضَرُونَ (32) ﴾ [يس: 28-32]
أي: وما أنزَلْنا على قَومِ ذلك الرَّجُلِ المؤمِنِ -بعدَ أن قتَلوه- ملائِكةً مِن السَّماءِ لإهلاكِهم، وما كُنَّا مُنزِلينَ؛ فما كانت عُقوبتُهم إلَّا صَيحةً واحِدةً، فإذا هم ميِّتون هامِدونَ! يا حَسرةً على العِبادِ؛ فما يأتيهم في الدُّنيا مِن رَسولٍ إلَّا استَهزؤوا به!
ألم يَرَوْا أنَّنا أهلَكْنا كثيرًا مِن الأُمَمِ السَّابقةِ عليهم؛ بسَبَبِ إصرارِهم على كُفرِهم، واستِهزائِهم برُسُلِهم، وأنَّ هؤلاء المُهلَكينَ لا يَرجِعون إليهم؟! وما مِن أمَّةٍ مِن الأُمَمِ إلَّا وستُحضَرُ إلينا يومَ القيامةِ؛ لِنُحاسِبَها على أعمالِها. [التفسير المحرر]
فوائد وعبر:
من الدروس والفوائد المستفادة من قصة صاحب يس:
-
المبادرة إلى نصرة الحقِّ: فقد جاء من أقصى المدينة مسرعًا، رغم كونه فردًا أعزل غير ذي سلطةٍ ولا جاهٍ؛ فنزول الضُّر به متوقَّعٌ بل محتم، ومع ذلك لم يتردَّد أو يتأخر!
-
التجرُّد والإخلاص: فلم يكن له غرض دنيوي، ولم يطلب أجرًا أو مغنما، وإنما هو الإيمان الخالص والدعوة الصادقة.
-
الثبات على المبدأ: لم يُثنِه تهديدُ قومه عن إعلان إيمانه وثباته ونصرته للحق.
-
الدعوة بالحكمة والموعظة: فقد خاطبهم بقوله: (يَا قَوْمِ) وفي هذا معنًى لطيفٌ؛ فإنَّه يُنبئُ عن إشفاقٍ عليهم وشَفَقةٍ؛ فإنَّ إضافتَهم إلى نفْسِه بقَولِه: (يَا قَوْمِ) يُفيدُ أنَّه لا يريدُ بهم إلَّا خيرًا ، فيَنبغي التَّلطُّفُ بالقَولِ في دعوةِ الغَيرِ؛ فإنَّ هذا يَستوجِبُ اتِّباعَه، وقَبولَ نُصْحِه .. ثم تأمل بعد أن قتلوه كيف تمنى لهم الخير وهم كفرة عباد أصنام؟!
-
الجزاء الحسن لمن أوذي في سبيل الله: فإن صاحب يس حين قُتل في سبيل الله، أدخله اللهُ الجنة مباشرةً!
-
الدعوة إلى الله لا تقتصر على الأنبياء وحدهم، بل يشاركهم فيها المؤمنون الصادقون، كما وقع من صاحب يس.
إن قصة صاحب يس تحمل درسًا لكل مؤمن صادق، يدعو إلى الله دون انتظار مقابل، ويضحي من أجل دينه، ويبتغي رضا الله وحده.
نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص والثبات، وأن يجعلنا من أنصار الحق، والسائرين على درب الأنبياء والدعاة الصادقين.
💡إذا أثّرت فيك قصته... فأنر بها طريق غيرك وشاركها مع أحبائك!🌿